سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

حماس .. بين دحلان وعباس

0

مع اقتراب الموعد العلن مبدئياً للمؤتمر السابع لحركة التحرير الوطني الفلسطيني – فتح، أي قبل نهاية العام الحالي، يحتدم الصراع المعلن والمخفي بين أقطابها وتياراتها المختلفة، وتتتالى أخبار وتسريبات التحالفات والكولسات والمواجهات العلنية بمختلف الأدوات لأهداف التواجد والاستبعاد في معركة اللجنة المركزية القادمة للحركة التي يفترض أن يفرزها المؤتمر.

محور الاستقطاب الأبرز في هذه المعركة هو الثنائي عباس – دحلان، الرئيس الحالي المتفرد في القرار والقيادي القوي المستبعد من دوائر صنعه، على أرضية الخلاف المستعر بينهما منذ سنوات (وهو خلاف شخصي على خلفية التنافس وليس خلافياً سياسياً حول أفكار وبرامج) كلف الثاني عضويته في قيادة الحركة ويخشى الأول أن يكلفه رئاسته الآن أو لاحقاً.

يقوي من احتمالات أو هواجس هذا السيناريو الأخير تواتر التدخلات الخارجية على محور هذا الصراع مؤخراً، سيما من مصر وما يسمى بالرباعية العربية، بطريقة شبيهة حد الدهشة والسخرية من سيناريو فرض عباس نفسه – بالتحالف مع دحلان – على الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات قبل الإطاحة به (بالسم غالباً)، ولعل هذا تحديداً ما يجعل “أبا مازن” حساساً جداً تجاه حليفه السابق غريمه الحالي.

ولأن قيادة فتح تعني في ظل المشهد الفلسطيني الحالي وتوازناته (اختلال توازنه بالأحرى) قيادة السلطة الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية و”دولة فلسطين”، فإن هذا الصراع الدائر حولها ذو انعكاسات مباشرة لا يستهان بها على مجمل المشروع الوطني الفلسطيني (إذا ما زال بالإمكان استخدام هذا المصطلح اليوم) ومختلف الحركات السياسية الفلسطينية وفي المقدمة منها بطبيعة الحال حركة حماس، الأمر الذي يثير أسئلة منطقية حول موقف الأخيرة من هذا الصراع وسياقاته ونتائجه المتوقعة.

بطبيعة الحال، يزيد من أهمية هذا السؤال اليوم أربعة سياقات مهمة وشبه متزامنة:

الأول، انجلاء المشهد الفتحاوي الداخلي عن استبعاد سيناريو “المصالحة” بين عباس ودحلان الذي كانت تدفع به بعض الأوساط العربية، وانتصار خيار المواجهة والتغلب، الأمر الذي تشير إليه لقاءات الرجلين الإعلامية واجتماعات كل منهما المعلنة والمسربة وتراشقاتهما عبر وسائل الإعلام.

الثاني، التدخل العربي  – تحديداً المصري – الواضح في الأزمة لدعم دحلان مقابل عباس، ليس فقط عبر احتضان الأول وفتح المنابر الإعلامية والسياسية له، وليس فقط عبر الحملات الإعلامية التي تتنقص من شخص الثاني وقدره، ولكن أيضاً عبر حزمة من الإجراءات التنفيسية والتخفيفية التي طالت قطاع غزة مؤخراً في ظل الحرص على إبراز دور ما لعبه دحلان فيها بالوساطة مع المصريين وفي ظل الأزمات المركبة والمزمنة التي يعاني منها القطاع الذي تدير شؤونه حركة حماس.

الثالث، حضور تيار دحلان القوي بل الطاغي في قطاع غزة في مواجهة عباس، وهو حضور سابق على تفرد حماس في حكم القطاع بطبيعة الحال، لكنه أيضاً يتعزز بطريقة أو بأخرى عبر إشارات السماح لأنصاره بالتظاهر أو زوجته -السيدة “أم فادي”- بافتتاح المشاريع ودعم المبادرات وإسناد المعوزين.

الرابع، عدد من المقالات والكتابات التي تناولت التطورات وشخص محمد دحلان بشيء من الوردية السياسية أو الدعاية الخفية أو الأمل الضمني بمستقبل أفضل لسكان غزة معه او عبره (الحديث عن خطاب دحلان “الوطني”)، بعضها يعتبر مقرباً من الحركة بحكم موقعه السابق فيها وبعضها الآخر محسوب عليها رغماً عنه وعنها، إضافة إلى النقاشات شبه اليومية على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي من قبل أنصار حماس وغيرهم من الشباب الفلسطيني.

في الحقيقة، فإن كاتب هذه السطور لا يتوقع أن يتصدر دحلان في الفترة القريبة القادمة المشهد القيادي في حركة فتح والحالة الفلسطينية بأن يكون “الرقم واحد” فيهما، أولاً لخلفيته وسيرته، وثانياً لحجم الاستقطاب الداخلي في فتح، وثالثاً لتوازنات القوى الحالية فيها، ورابعاً لأن إمكاناته وسقف ما يمكنه تقديمه – لدولة الاحتلال وليس للفلسطينيين – لم يحن وقتهما بعد، ورابعاً لمجمل الإجراءات التي يقوم بها عباس لمنع دحلان وأنصاره من المشاركة في المؤتمر فضلاً عن أن يحققوا فوزاً. برأيي المتواضع، ، وإن كان كل شيء في سياسة ممكناً، لن يكون دحلان على رأس السلطة لكنه قد يكون اليد الأمنية الضاربة أو الذراع اليمنى الأقوى في الحكومة، وفي فترة لاحقة على الأغلب، أي أنه سيكون جزءاً من معادلة فتح والسلطة على المدى المتوسط وليس عنوانها الرئيس، ولذلك ينبغي تناوله كظاهرة وتيار وليس كشخص.

لكن، وبعيداً عن محاولة استشراف المشهد القيادي في حركة فتح ما بعد مؤتمرها الوشيك،كيف ينبغي على حركة حماس تحديداً مقاربة موضوع التعامل مع دحلان؟!!

أعتقد أن ثمة خمسة محددات تفيدنا في بناء رؤيتنا في هذا السياق، هي:

أولاً، ينبغي على حماس – والجميع – عدم نسيان توصيف محمد دحلان ودوره وارتباطاته الإقليمية و”الإسرائيلية”. فقد كان الرجل أحد أركان المنظومة الأمنية الرسمية الفلسطينية لمواجهة قوى المقاومة، ومقرباً جداً من الدوائر الأمنية الصهيونية (التي ينتقد السلطة اليوم لتعاملها معها)، وجزءاً من منظومة الثورة المضادة العربية. وعليه فإن من البديهي توقع استمراره في هذه المسارات بل وتعمقه بها وزيادة “فعاليته” ودوره في مخططاتها حال انتقاله من الهامش إلى المركز.

ثانياً، بالنظر إلى الخلفية والتوقيت، فإن الخطاب “الوطني” الذي يقدمه دحلان اليوم والإجراءات التخفيفية التي أتت بوساطته من قبل النظام المصري والإشارات التي يطلقها تجاه حركة حماس لا تعدو كونها أدوات تسويقية له بين يدي الخلاف مع عباس قبل مؤتمر حركة فتح سعياً لتحشيد أنصار فتح الساخطين على عباس وعلى حالة الحصار في غزة ولدعم حماس نفسها له في صراع الكراسي والمناصب القادم.

ثالثاً، إن الرسائل الإيجابية التي يقدمها دحلان في إطلالاته الإعلامية – التي تكثفت مؤخراً – والتي وصفها الكثيرون بالإيجابية والوطنية لا تجُبُّ، ولا يجبُ أن تجُبّ، ماضيه الزاخر بالمظالم والدم والتعاون الأمني مع الاحتلال وكتائب الموت ومحاولة الانقلاب المسلح على الحكومة في 2006 – 2007 ضمن ما عرف وقتها بخطة “خمسة بلدي”. فالفعل أهم وأصدق من الكلام السياسي المنمق، كما أن هذه المظالم غير مقصورة على حماس كفصيل سياسي بل يتعداها للحقوق الفردية لأشخاص وعائلات كثيرة نالها منه ما نالها وتعتبر أن بينها وبينه ثأراً شخصياً وخصومة وطنية.

رابعاً، من الخطورة بمكان محاولة الدخول على خط التدافعات الداخلية في حركة فتح بنية – بالأحرى بوهم – القدرة على التأثير لصالح القضية الفلسطينية عبر دعم طرف على آخر، مبدئياً وبراغماتياً. على الأقل لأن المؤتمر القادم لن يكون آخر حلقات الصراع ولأن المستقبل مفتوح على سيناريوهات عديدة ولعدم استعداء أي طرف مستقبلاً وباعتبار أن القرار ليس فتحاوياً – فلسطينياً محضاً بل تدخل في حساباته وتؤثر فيه العديد من الأطراف وفي مقدمتها القاهرة وتل أبيب (للأسف الشديد).

خامساً، لا شك أن كل ما سبق لا يخفى على قيادة حماس والقوى السياسية الفلسطينية، وبالتالي فليس من المتوقع أن نرى انحيازاً واضحاً وفجاً منها تجاه أحد طرفي النزاع، سيما دحلان بماضيه وما يمثله بالنسبة لها قبل غيرها. بيد أن الانطباعات تسبق الأفعال والسياسات في أحيان كثيرة وتكون أثقل منها في موازين الساسة والعامة على حد سواء. وهو ما يعني أن الاكتفاء بالحياد وعدم التدخل قد لا يكفي، بل ينبغي سد الطريق أمام أي إيماءات أو إشارات قد تخلق انطباعاً لدى أنصار الحركة وأبناء فتح وعموم الشعب الفلسطيني بأنها تقف إلى جانب دحلان في وجه عباس. ذلك أن الشرخ المعنوي في الصورة الذهنية لأي حركة سياسية وثقة أبنائها وحاضنتها الشعبية بها أمر ينطوي على خطورة استثنائية سيما في حالة حركات التحرر الوطني، ومن الأمور التي يصعب  – إن لم نقل يستحيل -ترميمها واستعادتها حال فقدانها.

لا شك أن حماس وغيرها من الفصائل الفلسطينية ستكون مضطرة، بل هي اليوم أيضاً مضطرة، للتعامل مع دحلان رغم كل ما سبق عنه ومنه، سيما إذا ما عاد إلى الواجهة كجزء من قيادة حركة فتح و/أو السلطة الفلسطينية، كما أنه لا يوجد منطق يدعوها لرفض المساعي التي يقوم بها لتخفيف الضغط عن أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة،بل يجب عليها طلب ذلك وتسهيله وتفعيله.

لا أقول يمكن لحماس التعامل مع دحلان، بل يجب عليها ذلك، ولكن من باب التعامل مع الأمر الواقع والقيادة التي تفرزها فتح/السلطة في حدود الاضطرار وكذلك من باب طرق كل الأبواب لتحسين الأوضاع في غزة ما أمكن، تماماً كما تتعامل حماس اليوم مع عباس كرئيس لفتح والسلطة والمنظمة و”دولة فلسطين” رغم كل ما بدر ويبدر منه من سياسات وتصرفات ومواقف وتصريحات، وهو الذي لا يقل سوءاً و/أو خطراً على الشعب الفلسطيني وقضيته من دحلان.

في الخلاصة، ثمة فارق كبير جداً بين التعامل مع أمر واقع من باب الاضطرار، وبين التعاون رهاناً على الخلافات الفتحاوية الداخلية، كما أن هناك فارقاً شاسعاً بين الاستفادة مما قد يقدمه دحلان لغزة (وغير غزة) وبين استفادة دحلان (أو حتى عباس) من العلاقة معها.

أخيراً، لمن يرى فائدة كبيرة من دعم دحلان للضغط على عباس، أقول إن الأخير لا يملك في جعبته ما يقدمه لحماس على صعيد المصالحة وللشعب الفلسطيني على صعيد مشروعه الوطني/التحرري، إذ لم يقدم على أي شيء من هذا القبيل وهو في أشد لحظات ضعفه فتحاوياً وفلسطينياً وعربياً. وعليه فلتسأل حماس نفسها، مَنْ الأخطر عليها وعلى مشروع المقاومة وعلى حقوق الشعب الفلسطيني وثوابته: قائد هرم فاقد للشرعية والدعم والقوة ومعروف السقف والإمكاناتومعرض لضغوط على عدة مستويات وهو على شفا الخروج من المشهد (الآن أو قريباً)، أم قيادي شاب وطموح ومدفوع بدعم عربي و”إٍسرائيلي” غير مسبوق ولا سقف لما يمكن أن يقدمه لداعميه؟!!.

شارك الموضوع :

اترك رداً