سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

العلاقات التركية – الروسية بعد الانقلاب

0

كما في كثير من الملفات، يتوقع أن تكون لحظة الانقلاب الفاشل في تركيا نقطة تحول في السياسة الخارجية التركية على عدة محاور تتعلق في معظمها بعلاقات أنقرة الغربية ومحاور سياستها الخارجية استراتيجياً، ويمكن إلحاق العلاقة مع روسيا بهذا السياق.

حيث سيتوجه الرئيس التركي خلال أيام إلى موسكو للقاء نظيره الروسي في أرفع لقاء بين الجانبين بعد أزمة إسقاط المقاتلة الروسية في تشرين الثاني/نوفمبر 2015، وبعد عدة محطات من التهدئة والرسائل الدافئة المتبادلة أهمها رسالة اردوغان نفسه لمناسبة اليوم الوطني الروسي – والتي أعرب فيها عن “أسفه” لمقتل الطيار – وتلبية وزير الخارجية التركي لدعوة المشاركة في قمة منظمة التعاون الاقتصادي لدول حوض البحر الأسود.

الإعلان عن زيارة اردوغان لروسيا جاء بعد الانقلاب الفاشل، وبالتالي فهو يحمل إضافة إلى سياق المصالحة البطيئة والثابتة بين الطرفين رسالتين على الأقل، الأولى تتعلق بالموقف الروسي من الانقلاب والمتقدم على مواقف معظم الدول الأوروبية والغربية (حلفاء أنقرة) بما يسرع من عملية المصالحة الثنائية بين الجانبين، والثانية تدور في فلك محاور سياسة أنقرة الخارجية على المدى البعيد.

ففي السياق الأول، سياق المصالحة، ليس خافياً أن الطرفين تضررا جداً من أزمة إسقاط الطائرة خصوصاً في البعد الاقتصادي وهو ما دفعهما نحو تسوية الخلاف بـ”تنازلات” بسيطة أو شكلية من كليهما أنزلتهما عن شجرة الشروط المسبقة بين الإصرار والرفض. فالعلاقات الثنائية بين موسكو وأنقرة – رغم العداء التاريخي والاختلافات السياسية والاستراتيجية والأزمات الآنية – تكتنف حجم تبادل تجاري وصل عام 2014 إلى 31 مليار دولار وكان الطرفان – سيما التركي – يرغبان في رفعه إلى 100 مليار دولار عام 2023. ويضاف إلى ذلك ومن ضمنه، المشاريع الاستراتيجية العملاقة المشتركة بين الطرفين وأهمها مشروع “السيل التركي” للغاز الطبيعي ومشروع محطة نووية في تركيا باستثمار روسي يبلغ مليارات الدولارات (عانت هذه المشاريع من الجمود إثر الأزمة)، إضافة إلى الحاجة الروسية للبضائع الغذائية الروسية واستفادة أنقرة من عائدات السياحة الروسية، حيث يحتل الروس المرتبة الثانية بعد السياح الألمان والذين حظرت بلادهم سفرهم إلى تركيا بعد الأزمة قبل أن تسمح مؤخراً باستثناف الرحلات السياحية إليها.

أما على المدى الاستراتيجي وفيما يتعلق برؤية السياسة الخارجية التركية ومحاورها الرئيسة، فثمة “مرارة” لا تخفيها أنقرة من مواقف “حلفائها” الغربيين التقليديين في كل من حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية بسبب مواقفهم الباهتة من المحاولة الانقلابية الفاشلة، وهو ما يعني أن أنقرة تدرك أنها لا يمكنها الوثوق تماماً بحلفائها هؤلاء لجهة نواياهم تجاهها ودعمهم لها في أي أزمات قادمة محتملة، وبالتالي فهي في أمس الحاجة لعدم احتكار هذا “المحور الغربي” لسياستها الخارجية بشكل حصري.

وهذا البعد الاستراتيجي كان يشغل بال القيادة التركية ما قبل الأزمة مع موسكو، حيث سعت أنقرة على مدى سنوات للتواصل مع المحور الروسي – الصيني من خلال منظمة “شنغهاي” وحصلت فيها على وضعية دولة مراقب وقدمت طلباً لعضويتها الكاملة، كما سعت لتنويع مصادر تسليحها خارج إطار الناتو، فرست مناقصة منظومة صواريخ باليستية على الصين، قبل أن تدمر أزمة المقاتلة الروسية هذين المحورين فتتجمد العلاقات مع موسكو وتعود أنقرة عن صفقة السلاح مع الصين وتستورد المنظومة من دول أوروبية منها فرنسا وإيطاليا.

وعليه، فإن عودة تركيا لسياسة خارجية متعددة المحاور ستكون في صلب أهدافها للمرحلة المقبلة على المدى الاستراتيجي، بيد أن مرحلة “تطبيع” العلاقات مع موسكو ثم تطويرها ورفع مستواها لاحقاً لمستوى التعاون الاستراتيجي لن تكون في متناول اليد بالسهولة المتصورة، فحقائق الجيوبوليتيك وأحداث التاريخ والاستراتيجيات المتقاطعة أعمق وأعقد بكثير من مجرد الرغبة بالتعاون من قيادتي البلدين.

وبالتالي سيكون من المتفهم أن تسير العلاقات بشكل ثابت لكن بطيء، بدءاً من التعاون الاقتصادي المهم لكليهما، ثم مروراً بالتواصل في عدد من ملفات الاهتمام المشترك وفي مقدمتها أوكرانيا/القرم والبحر الأسود وسوريا. وسوريا تحديداً هي بؤرة الاهتمام وحدث الوقت، بحيث ترتفع الأسئلة حول مدى انعكاس التقارب التركي – الروسي عليها.

والحقيقة أن تركيا كانت قد خسرت الكثير في المشهد السوري على هامش التدخل الروسي العسكري المباشر ثم أزمة إسقاط المقاتلة، ثم تراجع موقفها بالتنازل عن شرط ذهاب الأسد لصالح الحل السياسي المتناغم مع مخرجات اتفاق كيري – لافروف عبر مسار جنيف. وبالتالي فيمكن توقع مزيد من المرونة التركية فيما يتعلق بحل الأزمة في سوريا على مستوى التواصل مع المعارضة (نصحاً و/أو ضغطاً) في مقابل سماح موسكو لأنقرة بدور ما في شمال سوريا لإيقاف المشروع الكردي هناك والذي يعتبر أولوية بالنسبة لها وخطاً احمر من منظور أمنها القومي.

وهو افتراض يمكن سحبه على إمكانية توقع موقف روسي “مرن” من الأسد نفسه في حال تعمق التعاون بين العاصمتين في المستقبل القريب، سيما وأن المسؤولين الأتراك كانوا قد أرسلوا إشارات إيجابية حول رغبتهم في التعاون مع موسكو وحول مستوى هذا التعاون، وصلت لحد التعبير عن إمكانية فتح قاعدة إنجيرليك العسكرية ذات الأهمية الاستراتيجية للطائرات الروسية في إطار الحرب على تنظيم الدولة – داعش.

إذن، تبدو الرغبة متوفرة لدى الطرفين نحو ترميم العلاقات وتطويرها، وكذلك حاجة الطرفين لبعضهما البعض، فيبقى حديث الادوات والإمكانات ومواقف الأطراف الأخرى وفي مقدمتها واشنطن وحلف الناتو وما يمكن أن يؤثر في كل ذلك من تطورات.

شارك الموضوع :

اترك رداً