سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

تركيا والملف الكردي والإرهاب

0

بعد سنوات طويلة من الاستقرار السياسي والهدوء والتنمية الاقتصادية التي جعلت منها واحة استقرار في محيط مضطرب، بدت تركيا مؤخراً في بؤرة الاستهداف بعد سلسلة من الهجمات الإرهابية والعمليات الانتحارية، التي طرحت أسئلة جدية حول رسائلها السياسية وتأثيراتها على تركيا على المدى البعيد، فضلاً عن سؤال المشكلة الكردية الملح على صانع القرار التركي.

 

تغير القرار الكردي

بعد سنوات طويلة من العمل المتدرج على ملف الإصلاحات المتعلقة تحديداً بالحقوق الكردية في تركيا على قاعدة الاعتراف بالمظلومية التاريخية للأكراد ولكن عبر حل سقفه تركي – داخلي، وبعد مئات المشاريع الاقتصادية – التنموية للمناطق ذات الأغلبية الكردية في جنوب شرقي البلاد، وبعد لقاءات سرية مع عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني المعتقل في تركيا، بدأت الحكومة التركية ما أسمته “عملية تسوية” لإنهاء المشكلة الكردية على قاعدة إلقاء الحزب – المصنف في تركيا على قوائم الإرهاب – السلاح في مقابل إقرار الحقوق الكردية على قاعدة المساواة بعد صياغة دستور جديد للبلاد.

بيد أن عدداً من العوامل والمتغيرات، وفي مقدمتها تطورات الأزمة السورية، دفعت بالحركة السياسية (اليسارية) الكردية فيما يبدو إلى تغيير قرارها الاستراتيجي، باستشرافها للحظة تعتبرها تاريخية يمكنها من خلالها – وعلى هامش الأزمة السورية وضعف قوة الدولة المركزية – الحصول على كيان سياسي ما في شمال سوريا وعلى الحدود التركية. ولذلك فقد عاد خطاب “الإدارات الذاتية” ليطفو على السطح بعد أن غاب لسنوات طويلة، تحديداً منذ عام 2005 الذي قدم فيه أوجلان مراجعاته الشهيرة.

وفق هذا الإطار يمكن فهم الكثير من مواقف وتصريحات السياسيين الأكراد في تركيا مؤخراً، بدءاً بالمطالبة بالإدارة الذاتية في اجتماع “مجلس المجتمع الديمقراطي” الذي يضم تحت مظلته طيفاً واسعاً من الحركات الكردية التي تدور في فلك العمال الكردستاني أو قريبة منه وفي مقدمتها حزب الشعوب الديمقراطي، مروراً بالمشاركة في افتتاح مكتب لحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي السوري) في موسكو في ذروة الأزمة بين تركيا وروسيا، وليس انتهاءً بعدد من المواقف والتصريحات التي تلامس بل وتتجاوز الحدود الدستورية في البلاد مثل مشاركة إحدى برلمانيات الحزب في جنازة وبيت عزاء الانتحاري الذي فجر نفسه في أنقرة في شباط/فبراير الفائت.

 

دلالات ورسائل

حتى كتابة هذه السطور، شهدت العاصمة أنقرة ثلاثة تفجيرات كبيرة خلال خمسة أشهر استهدف أولها تجمعاً لناشطين أكراد والثاني مؤسسات حكومية وعسكرية والثالث مواطنين مدنيين في شارع رئيسي، بينما تعرضت اسطنبول لهجومين انتحاريين في منطقتين سياحيين شهيرتين (ميدان السلطان أحمد وشارع الاستقلال)، فضلاً عن حالة التصعيد المستمرة – على تراجع واضح – في أحياء بعض المدن ذات الغالبية الكردية.

وإلى جانب اتهام تنظيم الدولة (داعش) بهجومين منهم، فقد أشارت أصابع الاتهام في معظم الهجمات إلى حزب العمال الكردستاني وأحياناً بالتعاون مع قوات حماية الشعب الذراع العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا. وهو ما يضعنا أمام جملة من الدلالات والرسائل المهمة خلف هذه الهجمات:

الأول، تجمع عدة فصائل وتنظيمات على استهداف تركيا في تزامن لافت، وفي مقدمتها حزب العمال الكردستاني وتنظيم الدولة – داعش، والفصائل الكردية المسلحة في سوريا، وتنظيمات يسارية انفصالية مثل جبهة حزب التحرير الشعبي الثوري. وهو ما قد يعني أن أطرافاً خارجية قد وضعت تركيا على لوح الاستهداف لأسباب تتعلق بسياستها الخارجية، دون إغفال تطورات المشهد الداخلي بطبيعة الحال.

الثاني، قرار يبدو قد حسم في دوائر العمال الكردستاني لرفع مستوى المواجهة إلى مرحلة العمليات الانتحارية والسيارات المفخخة، التي تركها لسنوات ويبدو أنه عاد لها بعد فشل استراتيجية حرب الشوارع.

الثالث، استعار عدد من التنظيمات اليسارية الهامشية بعد الأزمة التركية – الروسية، وهو تفصيل يطرح تساؤلات مشروعة حول الدعم الروسي المفترض لها، ويحمل دلالات كبيرة مستقبلاً في الحالتين: تعمّق الأزمة وانتهاؤها.

الرابع، أنه رغم انفضاض جزء مهم من الحاضنة الشعبية للحزب عنه في تصعيده الأخير ضد الدولة التركية، إلا أنه ما زال يستطيع تجنيد الشباب وإقناعهم بتفجير أنفسهم وقتل المدنيين – فضلاً عن العسكريين – وهذه ملحوظة جديدرة بالاهتمام بالنسبة لصانع القرار التركي.

الخامس، أن تزامن الكثير من العمليات مع تطورات إقليمية – سيما فيما يتعلق بالأزمة السورية – واستهداف الكثير منها لأهداف سياحية واقتصادية يشير إلى الأهداف الحقيقية لهذه الهجمات والضغط الممارس على تركيا من خلالها، بل يكاد يشي بمن يقفون خلفها ويستفيدون منها.

السادس، التعاون الوطيد – إن لم نقل التنسيق عالي المستوى – بين الحركة السياسية الكردية على طرفي الحدود التركية – السورية، حيث يتدرب شباب العمال الكردستاني في معسكرات الاتحاد الديمقراطي وقوات الحماية قبل أن يعودوا لتركيا ليفجروا أنفسهم في شوارعها.

 

منظومة المواجهة

إن التطورات الخطيرة المتمثلة في تواتر الهجمات واستهدافها إزهاق أكبر عدد ممكن من الأرواح، وما تنطوي عليه هذه التفجيرات من تداعيات بعيدة المدى على تركيا بشكل عام وعلى خصوصية الملف الكردي فيها تحديداً، ليضع القيادة التركية أمام مسؤولية تاريخية في لحظة فارقة.

صحيح أن مكافحة الإرهاب تتطلب عزيمة قوية لا تلين، ومواجهة عسكرية – أمنية لا تتردد، لكنها أيضاً يجب أن تتبلور في منظومة متكاملة من الأساليب والأسلحة الواجب تفعيلها وفق رؤية واضحة محددة المعالم، بعيداً عن نفسية الاستفزاز ورغبة الانتقام.

وعليه، فإنه من الواضح من تجارب التاريخ عامة والخبرة التركية خاصة أن التعامل الأمني – العسكري لا يفيد لوحده وإن كان ضرورياً لكسر شوكة الخصم، وهنا تحتاج دوائر صنع القرار التركية لسبر أغوار المرحلة واستنباط الدلالات العميقة لتمظهراتها، لتصوغ منها رؤيتها التي ستبني عليها خارطة طريق المواجهة.

ومن أهم ما يجب التنبه له هو الاستراتيجية الجديدة للعمال الكردستاني وذراعه السياسية حزب الشعوب الديمقراطي، إذ يسعى الأول جاهداً لزيادة فاتورة الدماء لتكون بحراً يفصل بين الدولة/الحكومة ومواطنيها من الطيف الكردي، بينما يبدو الثاني متقصداً لما يرتكبه من انتهاكات دستورية رغبة في الحظر والعقوبات التي يمكنه من خلالها بث الروح في سردية المظلومية والإقصاء، للعودة مرة أخرى للغة السلاح والشارع والمواجهة التي يحاول إقناع حاضنته الشعبية – وخاصة الشباب – بها. ومن هنا يمكن اعتبار خطوة نزع الحصانة البرلمانية عن بعض النواب من الشعوب الديمقراطي خطيرة وبحاجة لمزيد من التفكير، بغض النظر عن مدى مشروعيتها القانونية واستحقاق بعض البرلمانيين لها.

وعليه، فعلى القيادة التركية مواجهة ذلك بمزيد من التفريق – النظري والعملي – بين المسلحين وأفراد الشعب، في ظل تواصل أفضل مع المكون الكردي منه، والحرص على سرعة إعادة الإعمار في المناطق المتضررة وتعويض السكان هناك.

بيد أن أفضل وأهم وأنجع ما على الحكومة فعله على المدى البعيد هو العودة للمسار السياسي، بغض النظر عن التسمية والفاعلين والطريقة، لأنها الطريق الوحيدة التي يمكن من خلالها دحض مزاعم الإقصاء وسد الذرائع أمام العمل العسكري، ورسم مستقبل من المواطنة المتساوية التي ترضي طموح الطيف الكردي.

إن “عملية التسوية” السياسية هي الحل الوحيد للمشكلة الكردية في تركيا في نهاية المطاف ولا حل غيرها، وهي بحاجة ولا شك لتنازلات قد تكون مؤلمة – ولكن لا بد منها – من قبل الحكومة، غلقاً لباب التدخلات الخارجية وصوناً لمتانة وتلاحم النسيج المجتمعي كمفتاح رئيس لتركيا القوية والكبيرة.

ولذلك فربما تكون الخطوة السياسية الأولى حزمة جديدة من الإصلاحات أو سعياً حثيثاً لصياغة دستور جديد للبلاد، رغم محاولات الإعاقة، ثم العودة لطاولات المفاوضات التي لا يمكنها أن تستثني حزب الشعوب الديمقراطي – إن لم يكن العمال الكردستاني – في غياب أي بديل أو منافس قوي له، وفي ظل تمثيله لطيف كبير من الأكراد في البرلمان، وباعتباره الذراع السياسية للكردستاني (الذي يحمل السلاح ويراد منه إلقاؤه)، ولو من باب أن من كان جزءاً من المشكلة يمكن أن يكون جزءاً من الحل.

وعليه، فإن زيادة الهوة بين هذا الحزب وبين العدالة والتنمية والحكومة من جهة أخرى ليس في صالح مستقبل تركيا بغض النظر – مرة أخرى – عن مواقفه ومدى استحقاقه لذلك، إذ على الحكومة والحزب الحاكم من خلفها أن يتصرفا “كأم الطفل” الحريصة عليه وليس كخصم سياسي يريد النيل من منافسيه أو كحكومة تريد فقط محاسبة المخطئين.

شارك الموضوع :

اترك رداً