سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

الحسابات التركية في معركة الموصل

0

في 16 من تشرين الأول/أكتوبر الفائت، أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي بدء “معركة تحرير الموصل” من يد ما يسمى بتنظيم الدولة – داعش المسيطر عليها منذ حزيران/يونيو 2014. ورغم أهمية النقاشات المتعلقة بالمعركة واستراتيجيتها ومراحلها ونتائجها والتنسيق بين مختلف الأطراف المشاركة بها، إلا أن الخلاف العراقي – التركي قد خيم على الأجواء وسرق الأضواء من معظم تلك السياقات.

فقد استبق العبادي ساعة الصفر بالاشتباك السياسي والإعلامي والدبلماسي مع تركيا مندداً بقواتها المتواجدة في معسكر بعشيقة لتدريب البشمركة والحشد الوطني ورافضاً بشكل قاطع مشاركتها في المعركة، وهو تصعيد تطور إلى استدعاء السفير التركي وتقديم شكوى ضد أنقرة إلى مجلس الأمن والتهديد بحرب إقليمية ما لم تسحب تركيا قواتها. من ناحيتها، أكدت الأخيرة على عدم نيتها سحب مدربيها من معسكر بعشيقة وإصرارها على المشاركة في المعركة ضمن التحالف الدولي، متحدية تهديدات العبادي وزعماء الميليشيات الذين توعدوا مصالحها في العراق خلال المعركة وبعدها.

 

الهدف من استبعاد تركيا

لا تقع العين على كثير من التحليلات العسكرية المتعلقة بمدى إمكانية النجاح في طرد داعش من الموصل، إذ يبدو أن ذلك في حكم الأكيد، بالنظر إلى الترتيبات المتخذة والخطط العسكرية الموضوعة إضافة إلى عدد أنصاره في المدينة والذين سحب منهم الكثير فيما يبدو نحو مناطق أخرى بما يبقي أقل من 10 آلاف منهم فقط في الموصل وفق بعض التقديرات.

وعليه، فإن الجدل الدائر يتخطى الخطط العسكرية نحو الحسابات السياسية، أي حسابات ما بعد تحرير المدينة من داعش، وفق منطق بسيط – وصحيح – يقول إن من يشارك في العملية سيكون له دور وكلمة في مرحلة ما بعد داعش، على مستوى تركيبة الموصل الديمغرافية وخريطة العراق السياسية.

من هذا الباب لا يراد لأنقرة أن تكون طرفاً في معركة الموصل، حتى لا تكون عائقاً أمام ما يراد لها وللعراق من “هندسة ديمغرافية” ونظام سياسي يبدو مصراً على تهميش أجزاء أصيلة منه، تدعو تركيا لإشراكها في الحياة السياسية وفق معادلات التوافق والمشاركة والتعاون والعدالة. من جهة أخرى، تخشى أنقرة من مواجهات طائفية دامية في المدينة كما حصل سابقاً في عدة محطات منها الفلوجة، بما يؤدي لإشعال المنطقة مرة أخرى وزيادة عدد اللاجئين وإعادة صياغة بنية المدينة السكانية، مذهبياً وعرقياً.

اللافت أن الاستثناء من المشاركة في العملية يكاد يكون منحصراً بتركيا، في ظل مشاركة عشرات الدول تحت لافتة التحالف الدولي لمكافحة داعش وعدد كبير من الميليشيات والعشائر والفصائل العراقية من مختلف التوجهات والمرجعيات والتيارات السياسية. بينما تبدو تركيا من أكثر الدول تأثراً بالمعركة ونتائجها لتقاطعها مع منظومة أمنها القومي ومصالحها الحيوية والاستراتيجية (وليس فقط المصالح الاقتصادية الآنية) بشكل كبير، وأهمها:

  • كونها دولة جارة تجمعها حدود مشتركة مع العراق بكل ما يعنيه ذلك من تداخل وتأثر وتأثير في الاتجاهين.
  • عضوية تركيا في التحالف الدولي لمحاربة داعش، والمشارك في العملية بشكل رئيس.
  • تهديد داعش المستمر لها منذ سنوات، بما في ذلك العمليات الانتحارية وقصف المدن الحدودية إضافة للمخاطر المحتملة بعد حصر التنظيم في الموصل وطرده منها.
  • التركمان المتواجدون في شمال العراق والموصل – نينوى تحديداً، الذين تعتبر تركيا دولة راعية لهم سياسياً وثقافياً وتاريخياً.
  • الملف الكردي العراقي المتفاعل مع نظيره التركي الداخلي، سيما فيما يتعلق بحزب العمال الكردستاني الذي يمتلك معسكرات تدريب في جبال قنديل في الشمال.
  • اهتمام تركيا بالتركيبة السكانية في الموصل بما يمكن أن يضمن الأمن والاستقرار فيها وفي مجمل العراق وخشيتها من أي احتكاكات أو اقتتال على أسس عرقية وطائفية، وقد أعطتها اتفاقية أنقرة عام 1925 حق “أخذ رأيها” في أي نظام سياسي أو اجتماعي سيفرض على المدينة.
  • ملف اللاجئين الذي تبدو تركيا من أكثر دول المنطقة معاناة منه لناحية العدد والأعباء، فضلاً عن قرب الموصل من الحدود التركية وتوقع وصول حوالي 100 ألف لاجئ من الموصل إليها في حال عدم تحييد المدنيين وضمان أمنهم (ضمن توقعات بمليون نازح في المجمل عن المدينة).
  • مرور خطوط النفط الواصلة إلى داخل الأراضي التركية من المنطقة بما يجعل العملية وارتداداتها مرتبطة بشكل وثيق بأمن الطاقة التركي، فضلاً عن مصالح اقتصادية متعددة.

 

الخيارات التركية

قابلت تركيا هذا التعنت العراقي بإصرار واضح على المشاركة والتأكيد على بقاء قواتها في معسكر بعشيقة، ضاربة بتصريحات العبادي والمسؤولين العراقيين عرض الحائط. ورغم أن الموقف القانوني – السياسي للحكومة التركية يبدو ضعيفاً من الناحية النظرية في مواجهة حكومة بغداد المركزية باعتبارها الممثل السياسي للعراق والقيادة الإسمية للمعركة ضد داعش في الموصل (القيادة الفعلية للتحالف الدولي)، إلا أن أنقرة ظلت تؤكد على ضرورة مشاركتها سيما وأنها لا تحمل أي أطماع بالأراضي العراقية بل كانت من أوائل الدول التي أكدت على ضرورة الحفاظ على وحدة العراق وأمنه واستقراره.

بين يدي هذا الاشتباك السياسي، أكد الرئيس التركي أن لبلاده خطة بديلة- بل أكثر من خطة – للمساهمة في العملية مباشرة أو بشكل غير مباشر إن لم تدعها حكومة العبادي. قراءتنا للمشهد والتطورات تقول إن تركيا تملك فعلاً هامشاً للمناورة ومسوغات للتدخل – الآن أو لاحقاً – من خلال عدة سيناريوهات، هذه أهمها:

أولا: التحالف الدولي المشارك في عملية تحرير الموصل وتركيا عضوة فيه بما يمكن أن يغنيها عن موافقة أو دعوة ما من حكومة العبادي، فضلاً عن معسكر بعشيقة الذي أسس ضمن خطط التحالف وقاعدة إنجيرليك التركية ذات الأهمية الاستثنائية بالنسبة له، الأمر الذي يزيد من أوراق التفاوض التركية معه للمشاركة، والتي يبدو أنها تمت بشكل جزئي و/أو رمزي في الطلعات الجوية وفق تصريحات رئيس الوزراء التركي بن علي بلدرم.

ثانياً، المشاركة بناء على دعوة طرف آخر غير الحكومة المركزية، كقوى حرس نينوى التي دربت أنقرة جزءاً منها (الحشد الوطني) أو زعيم إقليم شمال العراق مسعود البارزاني. بيد أن هذا السيناريو دونه تحديات نظرية (قانونية) وعملية (عملياتية) ظهر بعضها في قرار بغداد السياسي/القضائي معاقبة قائد الحشد الوطني ومحافظ نينوى السابق أثيل النجيفي بسبب “تعاونه مع أطراف أجنبية”، وهي رسالة واضحة لتركيا.

ثالثاً، المشاركة غير المباشرة من خلال انخراط بعض القوى المحلية المدربة تركياً في العملية، كقوى حرس نينوى المكونة من تحالف جزء من الحشد الوطني مع عشائر سنية في نينوى والتي تشارك في العملية ويبدو أنها تحظى بمشروعية وقبول.

رابعاً، عملية “درع دجلة”، أي التدخل التركي العسكري المباشر في العراق على شاكلة درع الفرات في سوريا، وهو تطور يمكن أن يتم في حال وجدت تركيا مسوغاً للتدخل وفق مبدأ الدفاع عن النفس أو الضربات الاستباقية أو الحق في الملاحقة داخل الأراضي العراقية وفق اتفاق سابق مع بغداد، في حال تدحرجت الأحداث إلى أي من المسارات التالية:

  • مشاركة حزب العمال الكردستاني بشكل مباشر وفاعل في العملية، وهو المصنف إرهابياً في تركيا ويخوض ضدها حرباً انفصالية منذ 1984.
  • تعرض التركمان في المنطقة – سيما في تلعفر- للهجوم من قبل داعش أو إحدى الميليشيات.
  • توجه عناصر من داعش نحو الحدود التركية أو إلى داخل أراضيها، أو تحول عدد كبير منهم إلى الداخل السوري بما قد يعقد الحسابات التركية وعملية درع الفرات.
  • مشاركة الحشد الشعبي أو عصائب أهل الحق أو غيرهما من الميليشيات الطائفية في العمليات في قلب مدينة الموصل – على غير المعلن والضمانات المقدمة-وانخراطها في ممارسات طائفية.
  • أي إجراءات ترمي للتلاعب بالتركيبة السكانية للمدينة خلال المعركة أو بعد انتهائها، وهو الحق الممنوح لتركيا وفق اتفاقية أنقرة 1925.

خامساً، تدفق عدد كبير من اللاجئين العراقيين إلى الحدود التركية بما يعيد أنقرة لدائرة صنع القرار مرة أخرى.

سادساً، الحل الدبلماسي المباشر أي المشاركة بالتوافق مع حكومة العبادي، وهو خيار ما زال ممكناً برأينا، بل ما زال التواصل بين الطرفين – حتى كتابة هذه السطور – قائماً ومبشّراً بإمكانية حل الإشكال على أرضية المشاركة التركية (ولو رمزياً) مع تهدئة المخاوف العراقية في ظل زيارات متبادلة بين الطرفين.

 

ما بعد داعش

يبقى أن نتطرق في عجالة هذه المقال إلى نقطتين رئيستين لا ينبغي إغفالهما:

الأول، أن التقدم الميداني السريع في الأيام الأولى للعملية لا يعني أنها ستستمر على هذا المنوال أو أن داعش ستتخلى بسهولة عن الموصل. فالعملية ستكون على عدة مراحل آخرها في قلب المدينة، والتنظيم معروف بمناورات الكر والفر والعمليات الانتحارية التي ستعقد التطورات الميدانية بشكل كبير. وعليه فالمعركة طويلة النفس نوعاً ما، ويدعم ذلك تقديرنا بأن الإدارة الأمريكية كانت حريصة على إطلاق العملية قبل الانتخابات الرئاسية لتوثيقها كإنجاز في سجل اوباما ودعم ملف ترشح كلينتون وبالتالي فلن تكون راغبة في معارك شرسة وخسائر كبيرة (محتملة) إلا بعد الاستحقاق الانتخابي.

الثاني، أن تحرير الموصل وإخراج داعش منها لا يعني بحال القضاء على الأخير، ولا حتى بعد هزيمته في معقله الرئيس أي الرقة في سوريا. فما يسمى تنظيم الدولة ليس دولة تقليدية ليعلن استسلامه حال سقوط عاصمته ولا جيشاً سيرفع الراية البيضاء بعد أول هزيمة ميدانية ولا كياناً سياسياً سينهار بعد خسارة مواقعه أو أراضيه. داعش تيار متشدد يمتاز بالغلو الفكري، نشأ على أسباب واضحة في مقدمتها الفساد السياسي والأزمات الاقتصادية وغياب العدالة الاجتماعية والانحناء للخارج واغتيال عملية التحول الديمقراطي في المنطقةوالاحتلال الاجنبي وغيرها، ومن دون معالجة هذه الأسباب بشكل مباشر وجذري لا يمكن الحديث عن مواجهة ناجحة مع التنظيم، وجل ما يمكن تحقيقه هو كبته والضغط على أفراده الذين سيتفرقون في المدن والبلاد مرحلياً في انتظار اسم جديد وعلم آخر ينضوون تحته قد يكون أكثر وحشية من داعش بمراحل.

شارك الموضوع :

اترك رداً