سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

اتجاهات السياسة الخارجية التركية بعد الانقلاب الفاشل

0

رغم أن تركيا قد عانت من أربعة انقلابات عسكرية سابقة كان لها دور كبير في توجيه سياسات البلاد الداخلية والخارجية ورسم مستقبلها، إلا أن ليلة الخامس عشر من تموز/يوليو 2016 سوف تخلد في تاريخ تركيا الحديث ومخيال شعبها كحدث استثنائي يفوق في تأثيره كل هذه الانقلابات، لفشل المحاولة الانقلابية أولاً وللتطورات والتفاعلات والتداعيات التي تبعته ثانياً.

ولأن متانة المشهد الداخلي وتوازناته لها انعكاساتها المباشرة على السياسة الخارجية لأي دولة، فيمكن توقع انعكاسات مباشرة للمحاولة الانقلابية الفاشلة على سياسة أنقرة الخارجية، وفق المحددات التالية:

أولاً، على المدى القصير، ستنكفئ أنقرة على الملفات الداخلية على مدى أسابيع ربما، لاستكمال التوقيفات والتحقيق وكشف كافة ملابسات المحاولة الانقلابية وأهدافها وشخوصها وشبكة علاقاتها الداخلية والخارجية، فضلاً عن المراجعات والتحقيقات في مختلف المؤسسات الأمنية بحثاً عن كوامن القصور و/أو التواطؤ، وبالتالي فليس من المنطقي توقع سياسة تركية خارجية نشطة في هذه الفترة إلا بالحد الأدنى لعمل الماكينة الدبلماسية التركية.

ثانياً، بعد التعافي الداخلي وإغلاق ملف الانقلاب جزئياً ومرحلياً وغياب/تغييب مخاطر المرحلة الأولى الحرجة، ستعود تركيا للحضور في المجالين الإقليمي والدولي، وربما يمكن توقع رد فعل ما على أي أطراف خارجية تأكــَّدَ أو رَجَحَ تورطها في دعم الانقلاب أو تنسيقه أو إعطائه الضوء الأخضر أو حتى العلم به، وإن اختلف الأمر طبعاً – على المستويين الخطابي والإجرائي – حسب الأطراف/الدول المتورطة ومدى عمق علاقاتها مع أنقرة ومدى قدرة الأخيرة على مواجهتها. فالتعامل مع بعض الدول العربية – مثلاً – التي ورد اسمها في بعض التقارير الإعلامية التركية سيختلف جداً بطبيعة الحال عن التعامل مع الدول الكبرى، في حال ثبتت للسلطات التركية أدلة تدين هذه الأطراف.

ثالثاً، على المدى المتوسط، سيكون الرئيس اردوغان ومن خلفه الحكومة أقوى في المشهد الداخلي بما حققاه من انتصار سياسي وبالحاضنة الشعبية المتزايدة خلفهما، مما قد يوحي بسياسة تركية خارجية أكثر حدة في المواقف من السابق، سيما وأنه لا يمكن توقع حصول الانقلاب دون دعم خارجي وخصوصاً أمريكي. بيد أن الرغبة شيء والقدرة شيء آخر، كما أن الانقلاب وإن فشل فقد أوصل رسالة لصانع القرار التركي أكثر وضوحاً وحدَّة من كل سابقاتها، وبالتالي فالمتوقع هو استمرار أنقرة في تخفيف الاحتقان وتدوير الزوايا مع القوى الإقليمية والدولية واستكمال استدارة سياستها الخارجية التي كانت قد بدأتها مع الإمارات والكيان الصهيوني وروسيا قبل الانقلاب، سيما وأن العوامل التي دفعتها سابقاً لهذه الاستدارة ما زالت قائمة حتى الآن بينما أدوات التغيير والبدائل المطلوبة ما زالت غائبة أو مغيبة.

رابعاً، ساد التوتر وسيسود لفترة أخرى العلاقات التركية – الأوروبية على هامش المواقف “الباهتة” لبعض الدول والمنظمات الأوروبية عقب المحاولة الانقلابية ثم تشديد التحذيرات للسلطات التركية بعدم تجاوز الحد مع الانقلابيين أو استغلال الفرصة للتنكيل بهم أو الانتقام من المعارضة، وهي الحالة التي عبر عنها وزير شؤون الاتحاد الأوروبي عمر تشيليك قائلاً “ينتقدون الانقلاب بكلمة، ويحذروننا بجمل طويلة”. كما أن إمكانية طرح إعادة عقوبة الإعدام ستكون عاملاً توتيرياً بين الطرفين، باعتبار أن تركيا كانت قد ألغت العقوبة بناء على اتفاقات وبروتوكولات وقعتها مع الاتحاد الأوروبي ضمن استحقاقات ملف عضويتها فيه، وبالتالي سيكون للأمر انعكاساته على ملف العضوية وعلى العلاقات الثنائية وعلى التصريحات المتبادلة على حد سواء.

خامساً، ثمة أكثر من سبب لتوقع توتر بمستوى ما بين أنقرة وواشنطن، فإضافة للخلافات السابقة المتعلقة بالملف الكردي وخصوصاً المشروع السياسي لبعض الفصائل الكردية في شمال سوريا، ثمة مستوى نظري يستبعد حصول انقلاب في دولة مثل تركيا دون علم و/أو مشاركة واشنطن (وتاريخ الانقلابات في تركيا خير دليل)، كما أنه فعلياً ثمة قرائن عدة تشير إلى هذا المعنى وتقوي احتمالاته مثل انطلاق طائرات من قاعدة إنجيرليك العسكرية لتزويد المقاتلات التي شاركت في الانقلاب بالوقود وأخبار اجتماع قائد القوات التركية في القاعدة (والذي اعتقل لاحقاً) ليلة الانقلاب بمسؤولين أمريكيين عدة مرات. وإضافة إلى كل ذلك سيكون ملف تسليم الولايات المتحدة لفتح الله كولن، الذي تتهمه تركيا بالمسؤولية عن التخطيط للانقلاب، محكاً مهماً لمسار العلاقة الثنائية بين الطرفين، والذي ما زالت واشنطن تتمنع وتماطل إزاءه. بيد أن قطيعة كاملة مع واشنطن ليست في وارد أنقرة ولا مقدرتها لأسباب كثيرة، وهو ما يفسر عودة اللين والمرونة في التصريحات الرسمية التركية إزاء حليفتها الاستراتيجية.

سادساً، على المستوى الاستراتيجي، وخصوصاً إذا ما ثبت لدى صانع القرار التركي تواطؤ أو مشاركة بعض الدول الغربية في المحاولة الانقلابية، فقد تعود تركيا مرة أخرى لمحاولات تعديل البوصلة الاستراتيجية لسياستها الخارجية والبحث عن محاور جديدة تعطيها بعض التوازن، وهي المعتمِدة حالياً في المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية – الأمنية على ثلاثي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.

لقد حاولت تركيا ذلك سابقاً حين قدمت طلب عضوية – بعد قبولها كمراقب – لمنظمة “شنغهاي” وحاولت شراء منظومة صاروخية من الصين، بيد أن الضغوط الغربية ثم الأزمة مع روسيا قد أوصدتا هذين البابين وأعادتا تركيا تماماً للحضن الغربي – الأطلسي، فإذا ما تحصلت قناعة لدى القيادة التركية بضلوع حلفائها الغربيين في الانقلاب فقد تكون المصالحة المطردة مع روسيا فرصة لإعادة النظر بعلاقات تركيا الخارجية على المدى الاستراتيجي.

وبطبيعة الحال تبقى هذه محددات عامة وفق المشهد الحالي، والتي وإن كان لها بعض الوجاهة وفق تحليل عناصرها وسياقاتها إلا أنها تظل مفتوحة على متغيرات عدة محتملة تتعلق بتطورات الأحداث في تركيا، وفي مقدمتها مدى استتباب الأمن والاستقرار ونتائج التحقيق سيما فيما يتعلق بالبعد الخارجي وتقييم القيادة السياسية التركية ورؤيتها ومدى استقرار/تغير البيئة الإقليمية والتعامل الدولي مع تركيا فضلاً عن المتغيرات الإقليمية والدولية.

شارك الموضوع :

اترك رداً