سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

تركيا وتحديات الانسحاب العسكري الأمريكي من سوريا

0

 

تركيا وتحديات الانسحاب العسكري الأمريكي من سوريا

 

الجزيرة نت

لن يختلف اثنان حول أن قرار ترمب سحب قوات بلاده من سوريا مكسب حقيقي لتركيا، باعتبار أن القوات الأمريكية هي الداعم الرئيس لقوات سوريا الديمقراطية إحدى الأذرع العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي الذي تصنفه أنقرة كمنظمة إرهابية وتعتبر مواجهة مشروعه في سوريا أولويتها هناك، لكن هذه المكاسب ليست بالتأكيد دون تحديات حقيقية أمامها كذلك.

 

تحفظ وتريث

رد الفعل التركي الأول على قرار الانسحاب الأمريكي كان التريث وتأجيل إطلاق عملية عسكرية ضد قوات  سوريا الديمقراطية شرق نهر الفرات في سوريا.

ويبدو القرار التركي منسجماً مع ارتياح أنقرة لقرار ترمب من جهة وعدم يقينها بتنفيذه من جهة أخرى. فقد سبق للرئيس الأمريكي أن أعلن نيته سحب قوات بلاده من سوريا لكن ذلك القرار لم يجد طريقه إلى حيز التنفيذ قط.

أكثر من ذلك، تدرك أنقرة أن القرار صدر عن ترمب على غير رغبة المؤسسات الأمريكية، بدليل الانتقادات والاستقالات، ما يعني أنه قرار معرض للمراجعات والتراجعات خصوصاً في حال تغيرت المعطيات الميدانية في سوريا وهو أمر وارد حتماً ومتكرر دائماً. ما يعني أن القرار قد ينفذ وقد لا ينفذ، وقد ينفذ جزئياً، وقد يتأجل، وقد يمتد زمنياً.

من جهة أخرى يرتبط الموقف التركي الحذر باستشعار أنقرة لضرورة التنسيق مع الولايات المتحدة بحيث يتم الانسحاب دون صدام وبالشكل الذي يحقق مصالح الطرفين، والتنسيق مع روسيا وبدرجة أقل إيران لتفادي احتمالات الفوضى والفراغ وتصادم المصالح. وهو ما بدأت أنقرة بخطواته الأولى من خلال الوفد رفيع المستوى الذي ضم وزيري الدفاع والخارجية ورئيس جهاز الاستخبارات الذي زار موسكو والإعلان عن استقبال مستشار الأمن القومي الأمريكي في أنقرة بعد أيام.

 

كسر التوازن

يضع الانسحاب الأمريكي مشروع الميليشيات الكردية في سوريا في مهب الريح بغياب الداعم الرئيس لها وله، ويكاد يتركها لقمة سائغة أمام القوات التركية التي تتأهب منذ فترة لإطلاق عملية عسكرية ضدها في مناطق شرق الفرات، لكن أنقرة لا تشعر بالاطمئنان التام للقرار لعدة أسباب.

ففي المقام الأول، ورغم الخلافات الشديدة معها، إلا أن وجود القوات الأمريكية في سوريا قد منح تركيا دائماً نوعاً من التوازن في مواجهة روسيا التي تختلف معها في الرؤى وإن جمعت بينهما تفاهمات ومسار أستانا. لطالما ناورت أنقرة في المساحات الرمادية ومسارات التناقض الأمريكي  – الروسي في سوريا وهو ما لن يعود موجوداً في الفترة المقبلة. يعني ذلك تفويضاً أكبر لدور روسيا السياسي والعسكري هناك وتقويةً ليدها في الملف السوري عموماً وفي الإطار الثلاثي الضامن لوقف إطلاق النار على وجه الخصوص.

تركيا المندرجة في الإطار الثلاثي وفق معادلة واحد مقابل اثنين (روسيا وإيران) ستكون بالتأكيد أقل قدرة على المناورة بعد الانسحاب الأمريكي، وستكون روسيا ومعها إيران أكثر قدرة على فرض بعض المسارات والقرارات. يعني ذلك مخاطر محتملة بالنسبة لمحافظة إدلب واتفاق سوتشي بخصوصها، والذي تريده أنقرة دائماً وروسيا مؤقتاً، كما بالنسبة لمنبج ومناطق شرق الفرات وغيرها.

من جهة أخرى، فإن الانسحاب الأمريكي لا يعني تقويضاً تلقائياً للمشروع الانفصالي أو الفيدرالي في الشمال السوري، فالانسحاب لا يعني انتفاء الدور والتأثير، فضلاً عن دور قوات التحالف الدولي المتواجدة وسيناريوهات التفاهم مع النظام وإمكانات عودة تلك الميليشيات للحضن الروسي.

لقد عرفت تركيا على مدى 34 عاماً من مكافحة العمال الكردستاني فترات تراجع له تبعتها فترات إحياء ونشاط، ولذلك فهي لا تطمئن ولا تعول على أي سياق غير ذاتي في مواجهته وتريد استثمار الإنجازات التي حققتها في مكافحته في الأعوام القليلة الماضية لتقضي على آفاق مشروعه السوري تماماً.

 

سيناريو التقاسم

بغض النظر عن موقفها من القرار الأمريكي، تهيئ مختلف الأطراف أنفسها لملء الفراغ الذي ستتركه القوات الأمريكية، وهي تدرك أن السيطرة الميدانية هي مفتاح التأثير على طاولة التفاوض ومسار الحل السياسي الذي يتوقع له أن يسخن ويتسارع في المرحلة المقبلة.

هذا المنطق هو ما دفع قوات النظام لمحاولة دخول منبج – أو على الأقل الإعلان عن ذلك – استباقاً لدخول قوات تركية إليها، وهو أمر يشير بالضرورة إلى احتمالات التسرع ومخاطر الصدام في حال غاب التنسيق والحوار، كما يشير كذلك لحساسية الموقف وأهمية الوقت في الخطوات المستقبلية لمختلفة الأطراف.

ثمة خشية تركية حقيقية بأن يحاول النظام وحلفاؤه ملء فراغ واشنطن في مناطق شرق الفرات بمفردهم وتركها خارج المعادلة. أمر كهذا سيخل بالتوازنات داخل إطار أستانا أكثر فأكثر ويحمل مخاطر طرح النظام مسألة الوجود التركي في عفرين ومناطق درع الفرات على الطاولة مستقبلاً وبالتالي المطالبة بخروجها، وهما مساران لا تريد أنقرة التعامل معهما حالياً.

لكن، في المقابل، ثمة أسباب ثلاثة لاطمئنان تركيا نسبياً لموقف روسيا منها ومن دورها في سوريا:

الأول، أن مناطق شرق الفرات واسعة جغرافياً، حوالي ثلث الأراضي السورية، ومعقدة ديمغرافياً، بما يعني صعوبة سيطرة النظام بمفرده أو حتى بمساعدة الميليشيات الإيرانية عليه بعد ما تعرضت له مؤسسته العسكرية على مدى السنوات الفائتة.

الثاني، حساسية روسيا تجاه تمدد النفوذ الإيراني في سوريا ضمن التنافسات الضمنية داخل “حلف داعمي النظام”. وفي ظل غياب قوات روسية برية قادرة على ملء الفراغ الأمريكي سترغب موسكو – وفق القراءة التركية – بدور تركي مواز وموازن للدور الإيراني هناك حتى لا تصل طهران لمرحلة تستطيع فيها أن تكون شريكة حقيقية لها في القرار السوري بفعل المعطيات الميدانية.

الثالث، توسع ونمو المصالح الروسية مع تركيا بشكل ملحوظ مؤخراً، بما في ذلك المشاريع الاقتصادية الضخمة مثل مشروع السيل التركي للغاز الطبيعي ومحطة أك كويو للطاقة النووية، وصفقات الأسلحة النوعية وفي مقدمتها منظومة S400 الدفاعية الصاروخية. وهي مصالح لا تتيح لموسكو إمكانية تجاهل مصالح أنقرة ومخاوفها في سوريا، وتجعلها أكثر حرصاً على إشراكها في “الكعكة” السورية ما بعد الانسحاب الأمريكي.

وفق ما سبق، وفي ظل عدم ورغبة تركيا ولا قدرتها على التمدد على كامل مناطق شرق الفرات، وبالنظر لتفرد روسيا بالملف السوري وحضور النظام وإيران أكثر من أي وقت مضى، يبدو سيناريو التقاسم وارداً وبقوة.

وفق هذا السيناريو، يمكن أن تكتفي أنقرة بضبط شريط حدودي بعمق تتوافق عليه مع موسكو وواشنطن بما يشمل بعض البلدات الحدودية المهمة مثل منبج وتل أبيض ورأس العين، بينما يسيطر النظام على عمق مناطق شرق الفرات، في ظل تحديد حجم ودور قوات سوريا الديمقراطية والتوافق مع موسكو على كيفية إعادة هيكلتها وإبعاد قيادات العمال الكردستاني عنها ورفدها بعناصر إضافية.

هذه الأفكار وغيرها ستكون مطروحة بالتأكيد على طاولة الحوار التركي – الروسي وكذلك التركي – الأمريكي على مدى الأيام القليلة الماضية، لكن الصور والتصريحات الصادرة بشكل أولي عن اجتماع الوفد التركي في موسكو توحي بحرص على التنسيق والتعاون وتراجع مخاطر التصادم والافتراق، وهي انطباعات أولية سنتابع مدى انعكاسها على الميدان في الأيام المقبلة، ولعل مصير منبج سيكون الاختبار الأول لهذا التنسيق بين الطرفين.

شارك الموضوع :

اترك رداً