سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

عن وهم الرهان على “الداخل الإسرائيلي”

0

 

 

عن وهم الرهان على “الداخل الإسرائيلي”

 

إضاءات

ينسب إلى ألبرت أينشتاين قوله إن “الجنون هو أن تفعل الشيء نفسه مرة بعد أخرى بنفس الطريقة ثم تتوقع نتائج مختلفة”، كما ينسب له أيضاً قوله “عليك أن تتعلم قواعد اللعبة أولاً، ثم عليك أن تتعلم كيف تلعب أفضل من الآخرين”. ويبدو لي أن تجربة حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية الطويلة والمريرة مع “اليسار الإسرائيلي” أو “الداخل الإسرائيلي” ليست كافية ولا واعظة للبعض منا الذين يريدون – تقريباً خوض التجربة نفسها أو قريباً منها بنفس الطريقة ويتوقعون نتائج مختلفة، ودائماً تحت نفس الشعار: “الاشتباك السياسي”.

 

اليسار “الإسرائيلي”

ثمة أكذوبة روجت لها أوساط منظمة التحرير ثم السلطة الفلسطينية الناتجة عن “اتفاق أوسلو”، أولاً لتبرير التنازلات الكارثية في الاتفاق وثانياً لتبرير الاستمرار في التنازلات وثالثاً لتبرير الاستمرار في التواجد والعبث بمصير القضية الفلسطينية، وهي أن اليسار “الإسرائيلي” مختلف تماماً عن اليمين وهو أقرب لنا ومستعد لـ”السلام” مع الفلسطينيين وإعطائهم حقوقهم.

تقفز هذه الكذبة “السوداء” عن حقائق تاريخية عديدة، أهمها:

– اليسار ممثلاً في حزب العمل أو حزب ماباي هو المؤسس للكيان الصهيوني، المشروع الاستعماري الإحلالي، وهو من خاض حربي 1948 و1967، محتلاً الأرض ومهجراً السكان.

– منظمتا “الهاجاناة” و”البالماخ” اللتان كانت نواة جيش الاحتلال والمسؤولتان عن عدد من المجازر بحق الفلسطينيين (أشهرها دير ياسين) خرجتا من تحت مظلة حزب العمل.

– عدم اختلاف رؤية اليسار “الإسرائيلي” عن رؤية اليمين فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية إلا في بعض التفاصيل، حيث يتبنون فكرة يهودية الدولة والأغلبية اليهودية…الخ.

– أيد اليسار الصهيوني اجتياح لبنان لاجتثاث منظمة التحرير في 1982، رغم أنه كان في المعارضة.

– “شهيد السلام” إسحاق رابين هو صاحب سياسة “تكسير عظام” الفلسطينيين في الانتفاضة الأولى، وحمامة السلام شمعون بيريس هو من أمر بعملية “عناقيد الغضب” ضد المقاومة اللبنانية وارتكب مجزرة “قانا” في جنوب لبنان.

– إسحاق رابين نفسه هو صاحب خطاب “اللاءات الإسرائيلية” في الكنيست عام 1995: لا للعودة لحدود 1967، لا لعودة اللاجئين الفلسطينيين، لا دولة فلسطينية ذات سيادة، لا لترك السيطرة على غور الأردن، وأن سقف ما يمكن أن يمنح للفلسطينيين هو الحكم الذاتي.

– أوري أفنيري، مؤسس “حركة السلام” وأحد ممثلي أقصى اليسار “الإسرائيلي”، يتحدث عن حق عودة “رمزي” للفلسطينيين، بمعنى عودة عدد ضئيل جداً.

– المجتمع “الإسرائيلي” يسير منذ أكثر من عقدين نحو التطرف واليمين (بل اليمين المتطرف) وهو من يشكل النخبة السياسية الحاكمة، والانتخابات المتكررة واستطلاعات الرأي متاحة للجميع. لدرجة أن أفنيري نفسه يصف اليسار بأنه “أشبه بملاكم ممدد على أرض الحلبة، لا حول له ولا قوة”.

 

تجربة فتح ومنظمة التحرير

ثمة الكثير مما قد يقال عن الظروف التي دفعت منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة الراحل ياسر عرفات نحو “الحل السياسي” وعقد اتفاقية أوسلو، من تغير النظام الدولي وسقوط الاتحاد السوفياتي والتفرد الأمريكي وحرب الخليج الثانية …الخ. لكنني أعتقد أن الظروف الذاتية كانت أقوى من الموضوعية، بمعنى استعداد قيادة المنظمة للتنازل وعقد اتفاق ما مع الكيان الصهيوني، بسبب قناعة لديها بأن تحرير فلسطين غير ممكن عن طريق الثورة والسلاح، ويضاف لذلك طبعاً ضغوط الأصدقاء والخصوم، والحصار المالي والاقتصادي، وتراجع القدرات العسكرية و/أو الساحات المتاحة للفعل “الثوري”.

والدليل على ذلك أن “التواصل” مع “الداخل الإسرائيلي” بدأ قبل كل هذه التحولات بعقود، في ستينات وسبعينات القرن الفائت، تحت شعار التأثير على المجتمع “الإسرائيلي” و”إقناعه” بالحقوق الفلسطينية، حيناً من خلال بعض اليسار الفلسطيني وحيناً آخر – وهو الأهم والأخطر – من خلال قيادة منظمة التحرير.

محمود عباس، الرئيس الفلسطيني الحالي، يبدو وكأنه قد استفاد من أطروحته للدكتوراة في العلوم السياسية من معهد الدراسات الشرقية (الاستشراق) في الجامعة الروسية في موسكو حول “العلاقات السرية بين ألمانيا النازية والحركة الصهيونية”. قاد الرجل منذ عشرات السنين جولات من “الحوار” السري والتفاوض مع “الإسرائيليين”، لينتج عن أحدها – مع الجنرال بيليد – إعلان مبادئ السلام على أساس الحل بإقامة دولتين (كانون الثاني/يناير 1977).

اليوم، وبعد 25 عاماً على أوسلو، ما زالت السلطة الفلسطينية بعيدة عن أي مراجعة نقدية حقيقية لهذا المسار الذي أوصلنا لحالة انقسام وتشرذم داخلية وسيطرة صهيونية مطلقة وحركة استيطان مسعورة وأفكار يهودية الدولة و”الترانسفير” والوطن البديل ونقل السفارات إلى القدس ..الخ.

اليوم، يلتقي محمود عباس بوفود “إسرائيلية” أكثر مما يلتقي وفوداً من الفصائل الفلسطينية، ويخرج على الإعلام الصهيوني أكثر مما يخرج على الإعلام الفلسطيني (وهو “تحقيق” أكثر منه “لقاء”)، ويعزي في وفاة القيادات الصهيونية التي ارتكبت المجازر بحق شعبه، وأنشأ قبل سنوات “لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيلي” لإقناعه بالحقوق الفلسطينية. هذا المسار الذي انخرطت فيه القيادة الفلسطينية الحالية تحت وهم “الاشتباك السياسي” مع الاحتلال وشرح وجهة النظر الفلسطينية أوصلنا إلى مشاركة قيادات فلسطينية في مؤتمر هرتسيليا الصهيوني، أحد أهم الحواضن التي ترسم الاستراتيجيات الصهيونية.

 

هل نجرب المجرب؟

في الآونة الأخيرة، وعلى هامش التعامل الصهيوني الوحشي مع مسيرات العودة التي انطلقت في غزة، وظهور بعض الأصوات “الإسرائيلية” الرافضة لهذا التعامل وصولاً لكتابة أحد الصحافيين “أخجل من كوني إسرائيلياً”، تطل علينا من جديد دعوات لتلقي هذه الإشارات واستثمار الأصوات المعارضة داخل “المجتمع الإسرائيلي” ورأينا بعض المبادرات للشكر أو الكتابة أو التواصل الإعلامي أو الدعوات للتواصل بهدف “التأثير على الداخل الإسرائيلي” ومرة أخرى تحت شعار “الاشتباك السياسي”.

لا تكتفي هذه الدعوات أو المبادرات بالسير على خطى منظمة التحرير وعدم الاتعاظ من عشرات السنين التي ضاعت من القضية الفلسطينية وضيّعت منها الكثير، ولكنها أيضاً تتجاهل أو لا ترى ثلاث متغيرات رئيسة عن مسار المنظمة:

الأول، التبدلات الجذرية في خريطة السياسية والحزبية والمجتمعية في الكيان الصهيوني، بحيث بات الحديث عن يسار أو محايدين أو مناصرين للحق الفلسطيني من باب الخيال العلمي.

الثاني، أن الظروف الإقليمية والدولية اليوم أصعب بكثير على القضية الفلسطينية مما كانت عليه في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، وهوامش التحرك الفلسطينية فيها أقل وأضيق.

الثالث، أن الأصوات التي علت في الكيان الصهيوني مؤخراً معظمها – إن لم يكن كلها – لم تتحدث عن الحق الفلسطيني ولم تنطلق من رؤية مناهضة للسياسات الصهيونية، وإنما كانت في معظمها حريصة على صورة الكيان وجيش احتلاله أمام الإعلام والرأي العام العالميين، وهي المعركة التي خسرها الاحتلال الصهيوني بوضوح في مسيرة العودة.

 

ماذا تريد حماس؟

بناء على ما تقدم، ينبغي التاكيد على ثلاث مضامين مهمة في هذا السياق:

الأول، أن الرسالة التي ستصل لـ”الداخل الإسرائيلي” وفق المعطيات سالفة الذكر هي رسالة ضعف واستجداء، ليس من الذكاء توقع نجاحها لا الآن ولا على المدى البعيد. أكثر من ذلك، يفترض أن رسائل الضعف الناتجة عن أزمات تقوي من جبهة العدو وتزيد من تعنته وإجرام سياساته، باعتبار أنها “آتت اكلها”، بل وتفتح أمامه قنوات للاستثمار والاستفادة.

الثاني، إن التطبيع يبقى تطبيعاً، ويبقى مجرّماً ومرفوضاً ومداناً ويبقى توصيفه “خيانة” مهما كانت النوايا الطيبة التي تقف خلفه وكائناً من كان من يقوم به، لا يختلف في ذلك خصم أو صديق، دولة أو هيئة أو شخص.

الثالث، إن إشارات التطبيع والتواصل مع “الداخل الإسرائيلي” القادمة من فلسطينيين (ومن بعض المحسوبين على حركة حماس تحديداً) تضعف كثيراً حركات المقاطعة ورفض التطبيع، وتشجع ضمناً مسار التطبيع الرسمي والشعبي في بعض الدول العربية. إنه توقيت سيئ جداً للتذاكي ومحاولة “اختراق” المجتمع “الإسرائيلي”.

يبقى طبعاً حديث آخر، متفرع عن الأصل، يتعلق بأسلوب الحديث ومضمون الرسائل ولغة التواصل، والتي بالغ بعضها في حسن النية وبعضها الآخر في التودد، وهي أمور غير لائقة وغير مقبولة.

لا يجادل اثنان في أن القضية الفلسطينية تمر بأزمة حقيقية ومنعطف خطير، ما يفرض على الجميع أن يقدم ما لديه وأن يجتهد في المساهمة في تجاوز عنق الزجاجة الضيق جداً الذي حبست فيه. بيد أن هذه المساهمة ينبغي أن تبنى على أسس سليمة حتى لا تكون سلبية تزيد من ضعف الموقف وتفاقم من سوئه. إن أي جهد بلا تقييم للتجارب السابقة سيكون قفزة في الهواء، وأي عمل يغفل طبيعة المشروع الصهيوني (الإحلالي الاستعماري) ومفردات المعركة معه وخريطته الدخلية الحالية والمستقبلية لا يعدو عن أن يكون ارتجالاً بهدف القيام بأي شيء ولو كان مضراً (وسيكون).

صحيح أن الأزمات تحتاج إلى اجتهادات وأن الأفكار تتطور وفقاً للواقع، لكن على ألا تكون الاجتهادات مجرد تنازلات أو خطوات عشوائية وألا تـُطوَّع الأفكار تحت ضغط متغيرات الواقع، وشتان بين الأمرين. وإن كان ثمة أفكار أو آراء تطرح سيناريوهات جديدة ومختلفة للصراع مع الاحتلال (مثل مشروع الدولة الواحدة وغيرها) فينبغي أن تطرح علناً وصراحة وتناقش.

لا يعني هذا الكلام الزهد في الاهتمام بالمجتمع “الإسرائيلي” وإيصال الرسائل له فهو أحد عناصر الصراع، لكن على قاعدة أنه جزء من “العدو” وليس “طرفاً ثالثاً” نريد له أن يضغط عليه. ثمة رسائل عدة ترسل له وتصل إليه ويعيها، من خلال متابعة الإعلام الصهيوني لعمل المقاومة السياسي والعسكري والإعلامي، وقد أظهرت المقاومة نجاحات حولت جزءاً من هذا المجتمع إلى عامل ضغط عليه في صفقة شاليط مثلاً.

 

أخيراً، يبقى الأمر الأهم في الموضوع، وهو دور حركة حماس والمطلوب منها. فحماس، وفق تقييمات عدة، هي من يمكنه ميدانياً أن يوقف صفقة القرن ويقاوم محاولات تصفية القضية الفلسطينية. وبالتالي فان افتراض أن الإشارات أو التواصل مع “المجتمع الإسرائيلي” سيفضي إلى شيء على المدى البعيد هو افتراض يطرح سؤال ما الذي لدى حماس لتقدمه لم تقدمه من قبلها فتح/المنظمة/السلطة؟؟!!

صحيح أن موقف حماس ما زال واضحاً في رفض التطبيع، إلا أن صدور بعض هذه الإشارات والدعوات من بين أعضائها هو مؤشر مهم، لا يكفي إزاءه القول إنها لا تعبر عنها. في أي حزب أو تيار سياسي من يأتي بسياسة متعارضة مع مبادئه يُتنصل منه ويعاقب على ما أتى به، وإلا كان معبراً بطريقة ضمنية عن رضى ما داخل الحزب/التيار عما فعله.

وفي السياسة، فإن هذا النوع من التصريحات يمكن اعتباره بالونات اختبار أو “مسارات بديلة” أو حدائق خلفية – سبقت إليها منظمة التحرير ونعرف مساراتها ونتائجها – ما لم تصدر مواقف واضحة في رفضها والتبرؤ منها.

كتبت في 2014 مقالاً بعنوان “حماس وسياسات الاحتواء والتطويع: فتح نموذجاً”، وكانت خلاصته أن حماس أثبتت أنها عصية على الكسر العسكري وبالتالي تخاض معها معركة الترويض السياسي والتي تأتي بالتدريج وتستخدم فيها عناصر عدة داخلية وخارجية، ضاغطة وناصحة، ولذلك فعلى حماس أن تكون أكثر حذراً ووعياً وتنبهاً كي لا تصل لنفس ما وصل إليها من كانوا قبلها.

لقد أهدرت “اجتهادات” منظمة التحرير وقيادات السلطة عشرات السنين من عمر القضية الفلسطينية أعادتها إلى الوراء دهوراً، وآخر ما نحتاجه هو اجتهادات عشوائية جديدة تضيع ما تبقى منها، تحت عنوان الاشتباك السياسي أو التخذيل أو القيام بالواجب.

إن أول قاعدة تعلمناها في كلية الطب هي “primum non nocere” أي “أولاً، لا تضر”: بوسعك ألا تقدم للمريض شيئاً إذا كنت لا تعرف ما تفعل، أو كان ما ستفعله سيضره. ولذا، فما جاء هنا ليس مزاودة على أحد ولا عنتريات فارغة أو ادعاءات مثالية، بل هي محاولة للتنبيه على مخاطر قد لا تكون ظاهرة اليوم، ستتفاقم ويعظم خطرها إن ترك لها المجال للتمدد والتعمق، وعليه فإننا نردد مع تميم البرغوثي:

في يدينا بقية من بلاد  ..  فاستريحوا كي لا تضيع البقية

شارك الموضوع :

اترك رداً