سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

تركيا وأوروبا: عودة للحوار والتعاون

0

 

تركيا وأوروبا: عودة للحوار والتعاون

 

عربي 21

خطفت تركيا الأضواء قبل أسبوعين من الآن بزيارة اردوغان إلى بعض الدول الإفريقية ومن ضمنها السودان التي أعلن منها “تخصيصها جزيرة سواكن لتركيا، لإعادة تأهيلها وإدارتها لفترة زمنية غير محددة”.

وبغض النظر عن سقف المآلات بعيدة المدى لقرار كهذا، وهل تتضمن تواجداً عسكرياً تركيا على الجزيرة (كما ذهبت بعض التقييمات) أم لا، إلا أن القرار يعطي أنقرة إطلالة مهمة على البحر الأحمر. ولدى إضافة ذلك إلى القاعدة العسكرية التركية في الصومال المطلة على خليج عدن وتلك في قطر المطلة على الخليج العربي، نجد أن ثمة رؤية تصوغ مبادرات تركية مهمة في المنطقة لتصنع لنفسها نقط ارتكاز مهمة في مناطق حيوية ذات تأثيرات جيوبوليتيكية مهمة.

رغم ذلك، ومع أهمية الخطوة، إلا أنني أعتقد أن الاختراق التركي الأهم في الأيام القليلة الماضية كان في أوروبا وليس في إفريقيا، وتمثل في زيارة اردوغان لفرنسا ثم وزير خارجيته إلى ألمانيا، حيث حملت الزيارتان إلى الدولتين الأهم في الاتحاد الأوروبي إشارات مهمة على صعيد العلاقات التركية – الأوروبية المتوترة مؤخراً. فقد شهدت الزيارة الأولى توقيع تركيا مع كل من فرنسا وإيطاليا اتفاقاً لإنتاج منظومة دفاع جوي وصاروخي تركي، بينما تخلل الثانية لقاءٌ حميمي بين وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو ونظيره الألماني زيغمار غابرييل الذي استقبله في بيته وقدَّم له الشاي على الطريقة التركية، في لقطة حرصَ الطرفان على نشرها.

ولئن كانت الزيارة الثانية محملة بالإيحاءات الإيجابية، إلا أن الاتفاق الذي شملته زيارة اردوغان لفرنسا يحمل أبعاداً استراتيجية مهمة بالنسبة لأنقرة وعلاقاتها الأوروبية. ذلك أن تركيا ما زالت تفتقد لنظام دفاع جوي وصاروخي، وقد عملت جاهدة لشرائه من حلفائها في حلف شمال الأطلسي دون فائدة، وبينما لم تنجح مساعيها لشرائه من الصين بعد ضغوط أمريكية وأوروبية فقد وقعت مؤخراً مع روسيا على صفقة منظومة إس 400 الدفاعية، إضافة إلى مسار إنتاج منظومة محلية الصنع على المدى البعيد.

تحمل الصفقة التركية – الروسية عدة مخاطر على أهميتها، منها احتمال عدم اكتمال المسار لأي سبب من أحد الطرفين سيما وأن بعض التقييمات اعتبرها مجرد وسيلة ضغط منهما على الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ومنها تناقضها الفجة مع المنظومة الأمنية لحلف الناتو الذي تنتمي تركيا له بحيث لا يمكن إدماجها معها، ومنها أنه – للسبب الأخير تحديداً – لا يغطي المخاطر المحتملة لتركيا من كل خصومها/أعدائها، فضلاً عن تشكيك الكثيرين بتقديم موسكو التقنية الخاصة بالمنظومة لأنقرة كما كانت الأخيرة تريد دائماً.

الصفقة التي وقعتها شركتا “أسيلسان” و”روكتسان” التركيتان مع كونسورتيوم “يوروسام” الفرنسي – الإيطالي (تندرج تحته عدة شركات) تعني أن تركيا قد تمتلك فعلاً منظومتها الخاصة للدفاع الجوي والصاروخي بحلول منتصف العقد القادم (وفق ما هو معلن حتى الآن على الأقل)، لكنها تعني أيضاً أنها لن تكون أمام خيار واحد (روسي) في هذا المجال بالغ الحساسية، وتعني إمكانية الجمع بين المنظومتين لتغطيا معاً كامل المخاطر المحتملة عليها، وتعني حرص أنقرة على تخفيف الضغوط الممارسة عليها من حلفائها التقليديين في أمريكا وأوروبا، ولكنها تعني أمراً مهماً أيضاً وهو عودة التعاون التركي – الأوروبي بعد فترة طويلة من التوتر والشدّ وفتح آفاق التعاون العسكري بين الطرفين.

هذا التوجه التركي نحو أوروبا تقطف أنقرة بعض ثماره اليوم لكنه ليس وليد اللحظة، فقد شهد شهر تشرين الثاني/نوفمبر الفائت زيارة غابرييل لتشاووش أوغلو في مسقط رأسه في ألمانيا وتوقيع وزراء دفاع كل من تركيا وفرنسا وإيطاليا على خطاب نوايا بشأن التعاون في مشاريع دفاعية مشتركة. فما الذي استجد لهذه الخطوات الآن؟ أعتقد أن هناك عوامل عدة ساهمت في تهيئة الأرضية لها، وأهمها:

أولاً، حرص تركيا على سياسة خارجية متوازنة ومتعدد المحاور والأبعاد ما أمكنها ذلك بما يمنحها المزيد من الاستقلالية وهامش المناورة، وليس صحيحاً ما يظنه البعض من تحولها تماماً نحو الشرق (روسيا).

ثانياً، استمرار توتر العلاقات التركية – الأمريكية وانتقالها من أزمة لأخرى وهو توتر مرشح للاستمرار والتفاقم مستقبلاً، بما يدفع أنقرة للبحث عن البدائل التي من ضمنها روسيا والصين ولكن أيضاً الدول الأوروبية وفي مقدمتها بريطانيا وألمانيا وفرنسا.

ثالثاً، توجس أنقرة من النوايا الروسية على المدى البعيد ومدى حرصها – أي روسيا – على علاقات تعاون راسخة ومستدامة معها، في ظل نهجها المخالف لذلك في سوريا (إدلب مؤخراً كمثال)، وهو ما استحث ردة فعل تركية تمثلت بعودة الحديث عن عدم الرضا عن وجود الأسد في سوريا المستقبلية ورفض فصائل المعارضة السورية الرئيسة المشاركة في مؤتمر سوتشي. عامل “التوازن” المطلوب دائماً وأبداً في العلاقات الدولية، والذي دفع تركيا مؤخراً نحو روسيا بسبب توتر علاقاتها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، يدفعها اليوم دفعاً لعلاقات أفضل مع الاتحاد الأوروبي ودوله المختلفة في ظل صعوبة تحسن العلاقات مع واشنطن قريباً.

رابعاً، أشرنا سابقاً إلى أن أحد أهم أسباب التوتر التركي – الأوروبي خلال 2017 كان المنافسات الانتخابية في أكثر من بلد أوروبي في ظل خطاب يميني متصاعد اضطرت معه بعض الأحزاب الحاكمة في ألمانيا وفرنسا والنمسا وهولندا وغيرها إلى خطاب متشدد في مواجهة تركيا التي أيضاً أفادها التوتر مع الدول الأوروبية في الاستفتاء على التعديل الدستوري في نيسان/أبريل الفائت. اليوم، ومع الابتعاد زمنياً عن هذه المحطات الانتخابية، ومع غياب أي أزمات غير قابلة للحل و/أو التفاوض بين تركيا وأوروبا (على عكس الولايات المتحدة مثلاً)، يبدو التقارب والتعاون أو على الأقل الحوار ممكناً جداً بين الطرفين.

خامساً، تراجع حدة الخلافات بين تركيا من جهة وفرنسا وألمانيا من جهة أخرى على خلفية توقيفها لعدد من الصحافيين الحاملين للجنسيتين، حيث أطلِق سراحُ عدد منهم مؤخراً (ما زالت ألمانيا تربط بين إعادة تصدير السلاح لتركيا وبين إفراجها عن أحدهم). اليوم يؤكد غابرييل بأن الحوار مطلوب لتجاوز الأزمات التي يعترف الطرفان بوجودها، ويصفه تشاووش أوغلو بـ”الصديق الشخصي”.

سادساً، رغبة تركيا في تخفيف الضغوط الممارسة عليها أوروبياً في طريقها للانتخابات المصيرية في نهاية 2019، ما يتطلب تخفيض التوتر مع العاصمتين الأوروبيتين الأهم برلين وباريس.

سابعاً، تراجع أهمية عضوية الاتحاد الأوروبي بالنسبة لتركيا، جزئياً بسبب الانشغال بالأجندة الداخلية المزدحمة وأهمها الإعداد لانتخابات 2019 وبدء تطبيق النظام الرئاسي وجزئياً أيضاً بسبب القناعة التي تتشكل مع الوقت باستحالة انضمام أنقرة لنادي بروكسل عملياً وفنياً. ولئن كان تصريح اردوغان من باريس بأن بلاده “لن تطلب بعد اليوم من الاتحاد الأوروبي ضمها إليه” يحمل نبرة عتاب، إلا أنه يحمل أيضاً تلميحاً إلى مسارات أخرى بديلة.

هذه المسارات البديلة ألمح إليها أيضاً الرئيس الألماني شتاينماير حين قال بأن “البريكسيت” البريطاني “قد يكون نموذجاً جيداً لتركيا”. وهنا، قد يكون المعنى المقصود تخلي أنقرة عن حلم الانضمام للاتحاد لمصلحة تحسين شروط الاتحاد الجمركي وتأسيس نوع من الشراكة الاقتصادية الخاصة بينهما.

بالتأكيد، لا يعني كل ما سبق بأن الخلافات التركية – الأوروبية باتت من الماضي، ولكنه يعني توفر حد مقبول من الإرادة لدى الطرفين للحوار ومحاولة تجاوز الأزمات حرصاً على المصالح المشتركة الكثيرة وفي مقدمتها الاقتصادية. ويعني أيضاً إمكانية الوصول لحل وسط بين عضوية الاتحاد الأوروبي والقطيعة، حلٍّ يريح أنقرة من الوصائية الأوروبية ويريح أوروبا من هواجس انضمامها للاتحاد، ولعلها تكون الشراكة الخاصة التي تتضمن تطوير الاتحاد الجمركي على المدى المتوسط أو البعيد.

شارك الموضوع :

اترك رداً