سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

التوتر التركي – الأمريكي: الحدود والمآلات

0

 

التوتر التركي – الأمريكي: الحدود والمآلات

 

المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية

تتالى أخبار التوتر الأخير بين أنقرة وواشنطن وتتتابع فصوله، مع تجميد الممثليات الأمريكية في تركيا قبول طلبات التأشيرة (الفيزا) ورد الممثليات التركية في الولايات المتحدة بالمثل، على خلفية توقيف أحد العاملين الأتراك في القنصلية الأمريكية في إسطنبول واستدعاء آخر للتحقيق معهما في تهم تتعلق بالتنظيم الموازي أو جماعة كولن.

وكانت السلطات التركية قد أوقفت “متين طوبوز” قبل أيام للتحقيق معه ثم استدعت آخر، وقد سربت وسائل الإعلام التركية بعض القرائن التي أوقف الأول بسببها، وأهمها تواصله اللافت والمتكرر مع القضاة ومديري الأمن الذين رتبوا لقضايا الفساد في نهاية 2013 التي سميت حينها انقلاباً قضائياً على الحكومة ومع مجموعة من الضباط المشاركين في المحاولة الانقلابية الفاشلة صيف 2016.

في تفسير الغضب الأمريكي ثمة احتمالان. أن تكون واشنطن اعتبرت الأمر إهانة لها باعتبار أن للموظفين في سفاراتها وقنصلياتها نوعاً من الحصانة الضمنية، أو أن يكون هذان الموظفان – بشخصيهما أو بعلاقاتهما – على أهمية بالغة بالنسبة للتواصل مع جماعة كولن التي لا يمكن إخفاء علاقاتها الوطيدة مع الولايات المتحدة.

ثمة بعض المبالغة من وجهة نظري في وصف الأمر على أنه أزمة غير مسبوقة في العلاقات الثنائية بين البلدين، إذ لا يمكن مقارنة التوتر الحالي مع أزمة الصواريخ الكوبية (1962) ولا رسالة الرئيس الأمريكي جونسون (1964) ولا حظر بيع الأسلحة لتركيا بعد تدخلها في قبرص (1974) ولا أزمة رفض البرلمان التركي لاستخدام واشنطن الأراضي التركية لغزو العراق (2003). يمكن أن نقول إن الأزمة مختلفة عن سابقاتها، وإنها دبلوماسية بامتياز، وإنها تعدت التصريحات إلى إجراءات، لكنها بالتأكيد ليست أزمة غير مسبوقة ولا عصية على الحل.

كما أن هناك ضرورة لوضع هذه الأزمة/التوتر في سياقها، فهي لم تأت كمفاجأة أو بدون مقدمات، بل لعلها مجرد تمظهر جديد لمنحنى التوتر في العلاقات التركية – الغربية الأوروبية منها والأمريكية. فقد شهدت السنوات الأخيرة تدهوراً واضحاً في العلاقات التركية – الأمريكية تحديداً لعدة أسباب في مقدمتها الدعم الأمريكي المتواصل (والمتجاهل لتحفظات أنقرة) للفصائل الكردية المسلحة في سوريا ومماطلة واشنطن في ملف تسليم فتح الله كولن المقيم على أراضيها وهما ملفان يعتبران من مسائل الأمن القومي في تركيا، فضلاً عن الافتراق بين الطرفين في النظر لعدد من قضايا المنطقة.

ويبدو لي أن الأمر برمته متعلق بتبدل مستوى العلاقة بين أنقرة وواشنطن بعد التغيرات المهمة التي حصلت في تركيا ولها خلال السنوات الـ 15 الأخيرة مع العدالة والتنمية بما يشمل نظرتها لنفسها ومكانتها ودورها، وهو الأمر الذي يبدو أن واشنطن لا تريد تقبله أو تفهمه أو التعامل على أساسه. فمن المؤكد أن تركيا لم تعد مجرد قاعدة متقدمة للناتو كما كانت خلال الحرب الباردة، ولكنها أيضاً ليست الحليف الاستراتيجي الذي أعلن في 1995، ولا الحليف النموذجي كما وصفها أوباما في 2009.

إلى أين تسير الأزمة إذن؟ حسناً، ثمة إشارات مهمة لا ينبغي إغفالها على أن الطرفين لا يريدان التصعيد بلا سقف وإن رغبا في إيصال الرسائل وإثبات المواقف، منها محاولة الرئيس التركي حصر التوتر بشخص السفير الأمريكي (السابق الآن) في أنقرة جون باس والتي ردت عليها وفندتها الخارجية الأمريكية، ومنها تصريح البنتاغون أن الأزمة “دبلوماسية” ولن تؤثر على التعاون العسكري والأمني في مواجهة “الإرهاب”. أكثر من ذلك، هناك إجراءات اتخذت تشير إلى الرغبة في احتواء الأزمة منها لقاء المتهم الموقوف مع محاميه اليوم الجمعة مثلاً.

المتوقع إذن أن يحتوي الطرفان هذه الأزمة المحدودة بعد أن يستنفد استحقاقاته، بطريقة تحفظ ماء وجه الطرفين، والدبلوماسيون على جانبي المعادلة قادرون برأيي على بلورة مسار ما يرتضيه السياسيون من الجانبين بعد فترة. ولعله من المفيد الإشارة هنا إلى أن ما ساعد على اتخاذ الأحداث هذا المسار تزامنُها مع نهاية فترة خدمة السفير الأمريكي في أنقرة، وهو ما يعني أن تعيين سفير جديد قد يتطلب وقتاً كأحد استحقاقات الأزمة، لكنه يعني أيضاً أن تعيين السفير الجديد قد يأتي بحل مقبول لها.

لكن تجاوز الطرفين المتوقع لهذا التوتر لا يعني أن العلاقات المتردية بينهما مرشحة للتطبيع والتحسن قريباً، فالأسباب سالفة الذكر لتراجعها ما زالت قائمة وفاعلة ومستدامة في غياب أي مفاجآت كبيرة. وبالتالي فما أتوقعه هو استمرار منحنى تراجع العلاقات بين أنقرة وواشنطن بشكل مستمر وتدريجي وبطيء، دون دخولها بالضرورة في مرحلة أزمة عميقة جداً أو مواجهة علنية مباشرة.

وهو ما يدفع تركيا للاستمرار في تطوير علاقاتها مع دول الشرق وفي مقدمتها روسيا لإعطاء سياستها الخارجية جرعة من التوازن والمرونة تساعدها في ظل الأزمات المتلاحقة والمتزامنة، مع الإشارة إلى أن ذلك لا يغني أيضاً عن ضرورة بلورتها لرؤية جديدة لسياستها الخارجية تتناسب معها ومع دورها وتناسب أيضاً الأوضاع المتغيرة في الإقليم والعالم.

شارك الموضوع :

اترك رداً