سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

أبعاد دعم الكيان الصهيوني لاستقلال كردستان

0

 

 

أبعاد دعم الكيان الصهيوني لاستقلال كردستان

المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية

ثمة معارضة واسعة لمشروع الاستفتاء على استقلال كردستان العراق المزمع عقده في الخامس والعشرين من الشهر الجاري، بدءاً من حكومة بغداد المركزية وتركيا وإيران الذين يرفضون الاستفتاء جملة وتفصيلاً، وصولاً إلى الأمم المتحدة والولايات المتحدة وعدد من الدول الكبرى التي تتحفظ في غالبيتها على التوقيت وإن وافقت على المبدأ.

في ظل هذه المعارضة المحلية والإقليمية والدولية التي تراوحت بين النصائح والتحفظ والتهديد، يبرز استثناء مهم وذو دلالة وهو دعم الكيان الصهيوني للفكرة والإجراء والتوقيت، والأهم أنه معلن ورسمي وليس دعماً خلف الكواليس أو من تحت الطاولة أو خلف الأبواب المغلقة وحسب.

جاء الدعم الصهيوني لإجراء الاستفتاء في عدة أشكال منها الدعم الإعلامي خصوصاً في الولايات المتحدة، وعبر إرسال وفود تضامن إلى أربيل وغيرها من مناطق الإقليم، وعبر فعاليات كثيرة رفع فيها علم الكيان جنباً إلى جنب مع علم كردستان العراق. لكن الموقف الأبرز كان على لسان النائب السابق لرئيس هيئة أركان الجيش الصهيوني “يائير غولان” الذي دعا لدعم انفصال الإقليم كمصلحة “إسرائيلية” قبل أن يؤكد نتنياهو نفس المعنى.

لا يحتاج المرء لكبير جهد ليبثت أن المواقف الصهيونية لا علاقة لها بالدفاع عن حق الأكراد في دولة لهم أو في تقرير مصيرهم، فالفلسطينيون وشعوب المنطقة يعرفون جيداً مدى احترام دولة الاحتلال لحق الشعوب في الاستقلال وتقرير المصير، الأمر الذي دعا “فورين بوليسي” للسخرية منه في عنوانها: “أخيراً، نتنياهو يدعم حل الدولتين، لكن ليس في فلسطين بل في العراق”.

بدأ اهتمام الكيان الصهيوني ودعمه للحركات الكردية منذ منتصف القرن الماضي مع الملا مصطفى البارزاني، لكنه لم يكن شيئاً خاصاً بالأكراد بقدر ما كان ينبع عن رؤية “إٍسرائيلية” للتعامل مع “الأقليات” في العالم العربي والمنطقة عموماً.

المنطق الصهيوني بسيط ولكنه عميق، مفاده أن الكيان لا يستطيع الاعتماد على التفوق العسكري والدعم الخارجي على المدى البعيد في ظل محيط معاد له ويعتبره غريباً عنه، وبالتالي احتاج للعمل على مسارين رئيسين، هما مسار تطبيع العلاقات مع الدول القائمة من جهة ومسار تفتيتها إلى دويلات من جهة أخرى، بحيثتحصل تل أبيب على المكاسب الرئيسة التالية:

أولاً، تفتيت المنطقة وإضعاف الدول العربية الكبيرة والمركزية، بحيث تبقى دولة الاحتلال هي الأقوى.

ثانياً، تشجيع الأقليات على تأسيس دول/دويلات لها بحيث تبقى أسباب الصراع البينية في العالم العربي -الإسلامي على المدى البعيد، وتفعيل صراعات صفرية على أسس مذهبية وقومية تستنزف جميع الأطراف المتورطة دون نتيجة.

ثالثاً، إقامة تحالفات مع هذه الدول من باب “تحالف الأقليات” غير المرغوب بها في المنطقة وإحداث حالة “حصار” للدول العربية سيما الرئيسة منها، كما حصل في “التحالف المحيطي” عام 1958 مع كل من تركيا وإيران وإثيوبيا. ولعل أهم مقولة يمكن أن يقدمها الساسة الصهاينة للقيادات الكردية اليوم هي التشابه بين الحالتين لجهة رفض البيئة المحيطة “للاستقلال” وضرورة التعاون وإمكانية النجاح رغم ذلك.

ليس هذا من باب الإغراق في نظرية المؤامرة، بل هي خطط نظرية لها ما يؤكدها في الواقع العملي. لقد كتب الكثيرون حول ذلك وفي مقدمتهم صهاينة مثل أوديد ينون الذي كتب “استراتيجية من أجل إسرائيل في الثمانينات” المترجمة للعربية باسم “الخطة الصهيونية للشرق الأوسط”، كما كتب دافيد كاما كتاب “الصراع لماذا وإلى متى”، وفصّل أوري جوربائيل في دعم تل أبيب للحركات الكردية، بينما بات مشروع برنارد لويس للشرق الأوسط الجديد أشهر من أن يعرّف. وفي العالم العربي ثمة كتابات لا تعد ولا تحصى من أهمها موسوعة الدكتور المسيري رحمه الله وكتاب الدكتور أحمد سعيد نوفل “دور إسرائيل في تفتيت العالم العربي”.

وأما عملياً، فليس خافياً الدور الصهيوني في إثبات تهمة حيازة أسلحة الدمار الشامل على العراق تمهيداً لاحتلاله، ولا دورها في استقلال جنوب السودان والعلاقات اللاحقة معه، ولا ما تفعله في السنوات القليلة الأخيرة في أزمات المنطقة.

اللافت في الخطط “الإسرائيلية” المشار لها أنها لا تقتصر على دول الطوق أو المواجهة (في الماضي للأسف) مع الكيان مثل العراق وسوريا ولبنان ومصر والأردن، ولكن أيضاً لما سمي يوماً بدول الاعتدال العربي وباقي الخليج والدول العربية -الإفريقية.

لقد قطعت دولة الاحتلال -للأسف -شوطاً كبيراً جداً في تطبيع علاقاتها سراً وعلانية مع بعض الدول العربية، وبات من المألوف أن تسمع مقولة إن “إسرائيل” ليست العدو الأول للعالم العربي وصولاً لدعوة البعض للتعاون معها لمواجهة إيران، مع أن من يدعون لذلك لا يواجهون إيران أصلاً. رغم ذلك، فلا يبدو أن دولة الكيان قد تخلت عن استراتيجيتها وإنما تنتقل إلى مراحل متقدمة منها تشمل قبرص والأكراد والبربر وغيرهم.

اليوم، يظهر لنا هدف رابع من خلف الدعم الصهيوني لمشروع استقلال كردستان العراق (وسوريا لاحقاً) إضافة لما سبق، وهو حصار إيران وتركيا والفصل بينهما وبين العالم العربي جغرافياً وسياسياً، ومضاعفة إمكانيات التجسس عليهما والتعاون ضدهما، ومحاولات توتير الملفات الداخلية وخصوصاً الملف الكردي في كليهما ما أمكن ذلك.

رغم كل ما سبق، ثمة ثلاث ملحوظات لا غنى عنها في هذا السياق:

الأولى، أن حق تقرير المصير ومظلومية الأكراد التاريخية في المنطقة حقيقتان لا يماري فيهما منصف، لكن النقاش يدور حول السياق والمكاسب والخسائر والأطراف المستفيدة والداعمة والظروف المحيطة والمآلات …الخ. ولذا فهي دعوة للإخوة الكرد أن يفكروا في الأمر ملياً وأن يستفيدوا من دروس التاريخ، فالدعم الخارجي لا يأتي بدولة دون السلام الداخلي والتوافق مع الجوار، وإن أتى بها فلا يضمن استقرارها. وهي أيضاً دعوة للأطراف الأخرى – سيما العرب – لئلا يدفعهم السياق لإنكار الوقائع وتغيير الحقائق.

الثانية، أن هناك تضخيماً متعمداً من قبل الكيان الصهيوني لعلاقاته مع الأكراد ودعمه لمشروع استقلالهم، ليثبت لنفسه قدرات لا يملكها من جهة، وليثبت فضلاً له على الأكراد بحيث يفرض تطوير العلاقات معهم مستقبلاً أكثر مما هو موجود الآن.

الثالثة، ضرورة التفريق بين رفض مشروع الاستقلال لما يحمله من معاني التفتيت والتجزيء ولما له من مآلات سلبية على الأكراد ومجمل شعوب ودول المنطقة، وبين استعداء الأكراد وخسارتهم ودفعهم لحضن دولة الاحتلال تماماً. إذ لطالما أدى الحرص على عدم حصول حدث ما إلى إجراءات ومواقف تدفع إلى تحققه بشكل غير مقصود، وهو ما يسمى “التنبؤ ذاتي التحقق”. إن الأكراد شعب أصيل من شعوب المنطقة وهكذا سيبقون، رغم علاقات بعض قياداتهم المشبوهة مع دولة الاحتلال (مثل بعض قيادات العالم العربي)، ولذا فإن انتهى المطاف بدولة لهم فالواجب هو التعاون والتكاتف وليس الاستعداء والصراعات البينية، التي يفترض أننا نرفض إقامة الدويلة الكردية تخوفاً منها والتي يفترض أنها المصلحة الصهيونية الكبرى كما سبق (1).

شارك الموضوع :

اترك رداً