سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

جولة اردوغان والعلاقات التركية الخليجية

0

 

جولة اردوغان والعلاقات التركية الخليجية

 

الجزيرة نت

يقوم الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في الثالث والعشرين من الشهر الجاري بجولة في منطقة الخليج العربي تشمل كلاً من قطر والسعودية والكويت، ضمن مساعيه لحل الأزمة الخليجية وفي توقيت فارق الدلالة.

 

الموقف التركي

منذ الساعات الأولى للأزمة الخليجية بلورت تركيا موقفاً واضحاً ومتقدماً إلى جانب قطر تبلور في عدة مسارات. سارعت أنقرة في الساعات الأولى لفتح جسر جوي يحمل المواد الغذائية للدوحة كسراً للحصار الاقتصادي وتخفيفاً للضغوط عليها، ودعت إلى التعامل مع الأزمة بحكمة وعقلانية وعبر الحوار للوصول إلى حل سياسي سلمي، في وقت كانت هناك مخاوف حقيقية من سيناريوهات مجنونة وكارثية مثل محاولة ترتيب انقلاب داخلي أو تدخل عسكري ضد قطر. كما أكد اردوغان وقوف بلاده إلى جانب قطر بتصريحات كثيرة وحاسمة في نفي تهمة الإرهاب عنها، بل وبتأكيد أن كلا البلدين يعملان معاً لمواجهة المنظمات الإرهابية وفي مقدمتها داعش.

ورغم موقفها الواضح إلى جانب الحليف القطري، لم تستعْدِ تركيا دول الحصار خصوصا السعودية وحافظت على مساحة مقبولة من الحياد والتأكيد على الحل السلمي مما سمح لها بهامش للعب دور في الأزمة. نشطت الدبلماسية التركية، فتواصل اردوغان هاتفياً مع عدد من الرؤساء والزعماء ذوي العلاقة في مقدمتهم أمير قطر وأمير الكويت وملك السعودية، إضافة للرؤساء ترمب وبوتين وماكرون. كما زار وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو المنطقة في 14 حزيران/يونيو دون نتائج كبيرة في حينه. ومع هذا كله، لم تطرح تركيا مبادرة مستقلة ولا نفسها كبديل عن الوساطة الكويتية، بل دعمتها وشجعتها وأكدت على جهدها المكمل لجهود أمير الكويت.

بيد أن الخطوة التركية الأهم والأجرأ تمثلت في موافقة البرلمان على إرسال جنود إلى قطر وفق اتفاقية التعاون العسكري المبرمة بين الطرفين في 2015، وهو التصويت الذي سرّعه العدالة والتنمية في رسالة سياسية بارزة الدلالة والتأثير. نزع تصويت البرلمان التركي – مع عوامل أخرى – فتيل الأزمة وقلل من حظوظ السيناريوهات الكارثية، سيما مع دفعات الجنود الأتراك الذين وصلوا إلى قطر تباعاً منذ يوم التصويت والمناورات العسكرية المشتركة بين الطرفين.

 

سياق الزيارة

خمسة أسابيع مرت بين زيارة وزير الخارجية وزيارة اردوغان للمنطقة تغير فيها الكثير على صعيد الأزمة وأطرافها وسقفها والحلول المطروحة. أتت الزيارة الأولى في ظل تصلب دول الحصار وضغوطها الشديدة على قطر والتي دعمت في أيامها الأولى بتصريحات ترمب، فماطلت الرياض في الموافقة على الزيارة التي تخللها توقيف صحافيين تركيين، ولم تخرج الجولة بشيء يذكر.

اليوم، تأتي زيارة اردوغان وقطر أفضل موقفاً في الأزمة بعد تراجع دول الحصار عن “الشروط” وطرحها ستة “مبادئ” للحل وبعد إثبات مسؤولية الإمارات عن قرصنة وكالة الأنباء القطرية. كما أن شرط قطع العلاقات العسكرية مع أنقرة وإغلاق القاعدة العسكرية التركية (الريان) في قطر لم يعد مطروحاً، وهو ما يعني ضمناً قبولاً للدور التركي.

أكثر من ذلك، يبدو أن هنالك ضوءاً أخضر إن لم يكن طلباً سعودياً لدور تركي فاعل في حل الأزمة، بعد إدانة الإمارات بالقرصنة وفبركة تصريحات أمير قطر، الأمر الذي أحرج دول الحصار خصوصاً الرياض، مما يعني أن زيارة الرئيس التركي قد تقدم سلماً لها للنزول عن الشجرة. ومما يدل على رغبة الرياض في دور تركي ما أو على الأقل عدم معارضته تراجع حملة الإعلام السعودي ضد أنقرة، والتي وصلت ذروتها خلال الأيام الأولى للأزمة بالدعوة لدعم حزب العمال الكردستاني وإقامة دولة كردية في جنوب تركيا والاحتفاء بقيادات حزب الاتحاد الديمقراطي – الامتداد السوري للكردستاني، والمصنف على قوائم الإرهاب التركية – على صفحاتها.

تبدُّل الموقف الدولي وتحديداً الأمريكي من الأزمة انعكس على موقف دول الحصار وزاد من حرجها بعد أن تحولت من أزمة خليجية إلى دولية بامتياز، مما رفع من فرص الحل السياسي التفاوضي والذي يحتاج لجهد العديد من الأطراف.

جولة اردوغان الخليجية تضعه في سياق التوسط وطرح المبادرات، إذ هو أول رئيس يزور المنطقة من خارجها بعد الأزمة، وثالث شخصية سياسية تزور الدول الثلاث بعد أمير الكويت ووزير الخارجية الأمريكي، اللذين قدما مبادرات وسعيا للتوسط في الأزمة.

يزور اردوغان قطر الدولة المحاصَرة والسعودية أهم دول الحصار والكويت صاحبة المبادرة والوساطة ويستثني كلاً من الإمارات والبحرين.

اعتبر البعض ذلك موقفاً تركياً من أبو ظبي تحديداً لدورها التصعيدي في الأزمة ودورها السابق في الانقلاب الفاشل في تركيا، بينما يتخوف آخرون من أن يؤثر ذلك على فرص نجاح الجولة في تحقيق أهدافها. بيد أن الزيارة تأتي في سياقات مشجعة كما سبق ذكره، وبعد ضوء أخضر سعودي معلن أو ضمني، وفي ظل قناعة كل الأطراف وفي مقدمتها دول الحصار بأن الطريق الوحيد للحل هو الحوار.

بهذا المعنى، يمكن لأنقرة أن تلعب دوراً محورياً، لعلاقاتها المتميزة مع الدوحة والجيدة مع الرياض، ولتكاملها مع الوساطة الكويتية والجهود الدولية. ليس من المنطقي توقع نتائج إيجابية كبيرة ومباشرة للزيارة، إلا أنها ستكون خطوة أولية لإمكانية فتح مسار للحوار المباشر بين الطرفين، تحديداً قطر والسعودية، بعد إجراءات اولية لبناء الثقة وتجاوز الأزمة، وهو أمر قد يستغرق وقتاً لكن لا مفر منه. في الحد الأدنى، ستكون زيارة اردوغان بداية لمسار يتخطى مرحلة فرض الشروط إلى مرحلة سماع الرأي الآخر وتهيئة الأجواء لبدء الحوار.

من يعرف الرئيس التركي يدرك أنه ما كان ليبدأ جولته الخليجية إلا وهو مطمئن إلى عدم فشلها في الحد الأدنى، وما كان ليعرض نفسه لحرج كبير. وبالنظر للأهمية التي تحملها زيارته كرئيس، بالاختلاف عن زيارة الوزير، ثمة فرصة لطرح مسار للحل أو مبادرة تقترحها تركيا بالتعاون والتنسيق مع الكويت أو بالتكامل مع وساطتها.

 

مستقبل العلاقات

رفعت هذه الأزمة العلاقات التركية – القطرية إلى مستوى استراتيجي وفتحت لها آفاقاً وأبعاداً جديدة، وبلورت حضوراً تركياً فاعلاً ومؤثراً في المنطقة سيزداد عمقاً ورسوخاً مع الوقت. فقد كان موقف تركيا من الأزمة نوعاً من رد الجميل لقطر على موقفها ليلة الانقلاب الفاشل، كما أن الحصار الاقتصادي عليها قد فتح لها أبواباً إضافية للتعاون مع أنقرة، فضلاً عن أهمية ودلالات قاعدة الريان وما سيفتحه اتفاق التعاون العسكري بين البلدين من آفاق مستقبلية على المستويين العسكري والاستراتيجي.

كان واضحاً منذ أيام الأزمة الأولى حرص أنقرة البالغ على العلاقات مع الرياض رغم اختلاف الرؤى والمواقف، وهو ما أمن لها إمكانية لعب دور الوسيط أو المقرّب لوجهات النظر. ستستمر العلاقات التركية – السعودية بشكلها الحالي دون هزات كبيرة في المستقبل القريب، لكن الأزمة قد ألقت بظلالها فعلياً عليها وأكدت خطأ الانطباع الذي ساد لفترة عن “حلف” أو “محور” سعودي – تركي. وهو ما يعني أن الطرفين سيحتاجان لجهد كبير لترميم ما أصاب العلاقة من تذبذب وانتكاسة إذا ما توفرت الإرادة لذلك، سيما في الجانب السعودي بعد المتغيرات الأخيرة في العائلة الحاكمة، ويعني أيضاً أن مستقبل العلاقات على خط أنقرة – الرياض سيحدده الجانب السعودي أكثر من التركي.

بالنسبة للإمارات، ولرغبة تركيا في عدم التصعيد والتوتير مع أي دولة أخرى، من المرجح أن تبقى العلاقات فاترة جداً وبمستواها الأدنى، بلا علاقات طبيعية لكن أيضاً بلا قطيعة. فلم تنس أنقرة بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة التي أحيت ذكراها الأولى قبل أيام فقط، ولا يمكنها غض النظر عن الأدوار التي تلعبها أبو ظبي في دول عديدة في المنطقة، لكنها تفضل في كل الأحوال عدم التصعيد.

في الخلاصة، فقد رسخت الأزمة الأخيرة العلاقات الوطيدة بين أنقرة والدوحة أكثر فأكثر وجعلت منهما ثنائياً أقرب للمحور لما لهما من رؤية ومواقف مشتركة أو قريبة من مختلف القضايا، فضلاً عن شعور الاستهداف المشترك والمصير الواحد إلى حد بعيد.

أما إذا ما تصلبت دول الحصار في موقفها الرافض حتى الآن للحوار والحل واستطالت الأزمة كثيراً أو تفاقمت، فإن ذلك قد يساهم في إعادة تموضع في المنطقة قد ينشأ عنها انحيازات واصطفافات وتحالفات أعمق وأقوى وأطول مدى من الحاصلة حالياً، يمكن أن تتخطى الثنائي التركي – القطري لتصل إلى إيران وغيرها، وهو موضوع أكثر تعقيداً وأبعد مساحة من عجالة هذا المقال بكل الأحوال.

شارك الموضوع :

اترك رداً