سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

عصا موسى: مشروع التطبيع الخليجي مع الكيان الصهيوني

0

 

 

عصا موسى: مشروع التطبيع الخليجي مع الكيان الصهيوني

 

إضاءات

في فيلم الهروب لأحمد زكي (1991)، كان ضابط أمن الدولة فؤاد الشرنوبي (محمد وفيق) يحتاج بين الفينة والأخرى لافتعال أو تفعيل قضية ساخنة تساعده للتغطية على قضية أخرى أخفق بها أو يريد أن يخطو فيها خطوة حساسة وخطيرة. وكان يسمي فعله ذلك “عصا موسى” التي ستستحوذ على كتابات الصحافة واهتمام الرأي العام وبالتالي “تلمُّ كل التعابين” أو القضايا الأخرى وتترك له الفرصة سانحة ليفعل ما يريد في القضية الأهم بالنسبة له.

أما أجهزة الاستخبارات التي تخطط للسياسي في بلادنا فتبدو أكثر احترافية من ذلك، بحيث تستطيع اختلاق قضايا لا وجود لها والنفخ للمبالغة بقضايا أخرى صغيرة، لا لتلهي الشعب والرأي العام عما تنوي فعله وإنما ليتحول ما تريد الإقدام عليه من أفعال وخطوات ومشاريع خطيرة ومرفوضة إلى مطلب جماهيري تطالبها به الشعوب، ومن أهم الأمثلة على ذلك قطار التطبيع الخليجي مع الكيان الصهيوني.

فقد أقدمت مصر على اتفاق كامب ديفيد (وطردت من الجامعة العربية حينئذ) ثم منظمة التحرير الفلسطينية والأردن، ودخلت سوريا في مفاوضات غير مباشرة، إلا أنها امتلكت “غطاء” لذلك من باب أنها دول مواجهة أو طوق (لاحقاً أصبحت دول جوار)، لكن ثمة دولاً خليجية تريد أن تصل لعلاقات طبيعية مع دولة الاحتلال لا تمتلك ذلك الغطاء، فاحتاجت لخطة أكثر تعقيداً. ولعلنا نتحدث هنا بشكل أساسي، وحسب المعطيات المتاحة، عن المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، ولاعتبارات عدة أهمها الدور والمكانة والتأثير وطبيعة نظام الحكم، سيكون غالب النقاش عن السعودية رغم أنه ينسحب على الجميع.

 

السكوت علامة الرضا

لن يتعمق هذا المقال في أسباب رغبة هذه الدول في التطبيع، فقد كتب الكثير عن الرابط الواضح بين استحقاقات انتقال السلطة في كل من السعودية والإمارات تحديداً وبين النظرة للعلاقات مع تل أبيب على أنها بوابة رضا واشنطن عن شكل هذا الانتقال ومخرجاته. كما لن يفصّل المقال كثيراً في أمثلة مسار التطبيع و/أو الترويج له، لكنه سيكتفي بإشارتين:

الأولى، عدد التصريحات “الإسرائيلية” الكبير جداً حول العلاقات المتنامية بين تل أبيب وبعض الدول الخليجية والعربية خصوصاً المملكة العربية السعودية دون أي تكذيب أو تعليق رسمي من قبل هذه الدول. منها تصريحات للناطق باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي في مقابلة مع تلفزيون “روسيا اليوم” في 26 يونيو/حزيران الفائت حول وجود علاقات علنية وسرية مع بعض دول المنطقة “المعتدلة”، ووزير الإعلام والاتصالات أيوب قرا لموقع “ميكور ريشون” عن مفاوضات غير مباشرة بين “إسرائيل” والسعودية لإقامة علاقات دبلماسية لن تقتصر على الأخيرة، وتصريح نفس الوزير للجزيرة قبل أيام حول مؤتمر وشيك للسلام تسعى الولايات المتحدة لعقده بين “إسرائيل” ومعظم الدول العربية.

الثانية، خطوات تطبيعية أو ممهدة للتطبيع تجري بشكل علني ومتدرج منذ سنوات وتسارعت مؤخراً، منها لقاءات عديدة للجنرال المتقاعد أنور عشقي مع مسؤولين صهاينة، وزيارته مع وفد أكاديمي – اقتصادي لتل أبيب في تموز/يوليو الفائت، وظهور مدير مركز دراسات الشرق الأوسط بجدة عبد الحميد حكيم على قناة تلفزية “إسرائيلية” (أول سعودي)، وعدة لقاءات للأمير محمد بن سلمان نفسه مع مسؤولين “إسرائيليين” في 2015 على ذمة صحيفة هآرتس (دون تعقيب أو تكذيب مرة أخرى)،  فضلاً عن مشاركة دولة الإمارات في مناورات عسكرية مع دولة الاحتلال في آب/أغسطس 2016 في الولايات المتحدة وفي آذار/مارس 2017 في اليونان.

 

التطبيع على بصيرة

ليس أمراً سهلاً على دولة أسِّست على التحالف بين العائلة الحاكمة والمؤسسة الدينية مثل السعودية أن تنتقل لمربع التطبيع بسهولة ويسر، ولذا احتاج الأمر إلى خطوات متدرجة ومدروسة بعناية يمكن تلخيصها سريعاً بما يلي:

أولاً، تغيير توصيف الصراع: يدرك كل باحث رصين ومتابع جيد أن مشاكل العالم العربي كثيرة، في مقدمتها الاحتلال والفساد والظلم وبطش الأنظمة وغياب العدالة وضيق هامش الحرية والديمقراطية والتدخل الخارجي وغيرها، وهي الأسباب الرئيسة للثورات العربية التي أتت بحلم التغيير نحو الأفضل ووجهت بتحالف الثورة المضادة التي أرادت كسر الموجة وخنق الأمل بالتغيير. واجهت إيران الثورة في سوريا وساعدت الأسد في القتل والظلم، ووقفت السعودية والإمارات (وغيرهما) ضد الثورة في كل من مصر واليمن وتونس وليبيا وساعدتا أنظمتها عليها.

لكن هذا التوصيف، أي قوى التغيير في مقابل الأنظمة الفاسدة، لم يرق لصانع القرار فأراد تغييره إلى صراع مذهبي – طائفي بين السنة والشيعة، لأن هذا التوصيف يُخرج السعودية والإمارات من صف “الخصم” إلى صف “الحليف” المرتجى عونه بل والواجب مساندته في “حربه ضد نظام الملالي”.

يرى صامويل هنتنغتون في كتابه “صدام الحضارات” أن معظم النزاعات والصراعات تعمّق الاختلافات وتوحدها في مناط الاختلاف الأبرز الذي يكون في العادة دينياً أو ثقافياً أو حضارياً، لكن ما حصل في المنطقة كان خطة ممنهجة لإعادة تعريف الصراع. صحيح أيضاً أن تغول طهران في المنطقة توسَّل شعارات وأدوات طائفية لتحقيق أهداف سياسية للمشروع الإيراني وحشد “الشيعة العرب” تحديداً لخدمته، لكن ذلك كان الوجه الأول ونصف الحقيقة فقط، إذ كان الوجه الآخر أو النصف الثاني المكمّل هو مصلحة الرياض في تثبيت الصفة الطائفية للصراع في المنطقة وتضخيم التوتر المذهبي فيها ورفع شعارات طائفية أيضاً لكن في الاتجاه المعاكس لحشد “السنة العرب” تحت لواء مشروعها، وهو مثال آخر على الظواهر المتناقضة ظاهراً المتناسقة جوهراً.

ولئن من خصائص الجماهير سرعة التأثر والسذاجة والاستعداد المسبق لتصديق أي مقترح أو فكرة، ولأن الأساطير تنتشر بينها بالعدوى وبسرعة بل وبتضخيم الفكرة الأساس بشكل مضطرد، كما يقول غوستاف لوبون في “سيكولوجية الجماهير”، فقد انتشرت الفكرة كالنار في الهشيم بكل تفاصيلها ومصطلحاتها وانطباعاتها وتضخيماتها، يستوي في ذلك الكثير من العلماء والمثقفين والنخب مع العوام لأن القيمة العقلية للأفراد الذين يشكلون الجماهير غير ذات أهمية وتأثير في مواجهة “الهلوسات الجماعية”، كما يقول لوبون.

ثانياً، شيطنة الخصم:إذا أردت أن تحشد لمشروعك فشيطن خصمك/عدوك وألصق به كل الموبقات ثم ضخِّم قدراته وإمكاناته وأهدافه. هذا ما فعلته الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفياتي ثم مع عراق صدام حسين ثم مع “الإرهاب الإسلامي”، وهذا ما فعلته السعودية مع إيران حين ساهمت – عن وعي وقصد برأيي – في تضخيم القدرات الإيرانية من جهة (أسطورة سليماني صنعها العرب أكثر من إيران) وفي شيطنة المشروع الإيراني (وليس بريئاً طبعاً) من خلال صك مصطلح “المشروع الصهيو – صفوي – أمريكي”.

حاول أصحاب هذا المصطلح ومروجوه أن يقنعونا بالشيء ونقيضه دون أن يرف لهم جفن، بأن إيران حليف وثيق للولايات المتحدة والعدو الصهيوني (بدليل إيران وغيرها) وفي نفس الوقت بأن واشنطن ستواجه إيران وتقوِّض مشروعها مما يحتم علينا – يقولون – الانضواء تحت مشروعها. هكذا بات ممكناً – مثلاً – لمن يزاود ويتاجر بدعم القضية السورية أن يقول علانية “أنا مع المشروع الأمريكي” دون خجل أو مواربة، ودون أن يواجه معارضة شديدة ممن يعتبرون أنفسهم إسلاميين وعروبيين.

التضخيم والتزييف لا يعنيان أن إيران بريئة أو أن مشروعها مسالم لشعوب ودول المنطقة، بل إن تمددها في الإقليم وممارساتها الإجرامية في سوريا تحديداً كانت وقوداً مناسباً لمعركة من نوع آخر، معركة التدليس وتغيير البوصلة في المنطقة وصولاً لمحطة إقناع الشعوب العربية بضرورة وفائدة التطبيع مع الكيان الصهيوني.

إذا أردت أن تعمل بحرية ودون مقاومة تذكر فاعمل في الجزء المظلم من المسرح ووجّه الإضاءة على حدث آخر على نفس الخشبة، يقول مالك بن نبي، وهذا ما فعلته الرياض التي أمّنت لها هذه السردية ليس فقط السكوت عن مشروعها وسياساتها وإجراءاتها (في اليمن مثلاً) ولكن أيضاً تجييش وتحشيد المختلفين معها تاريخياً تحت لوائها.

ثالثاً، تبرئة العدو: عملت الخطة إذن لاختلاق، أو إن شئنا الدقة لتضخيم، عدو آخر إلى جانب الكيان الصهيوني بل واعتبار هذا العدو الجديد جزءاً من المشروع الصهيوني نفسه لشيطنته، لكن ذلك لم يكن ليفيد مشروع التقارب مع تل أبيب، ولذا كانت الخطوة التالية هي فك الترابط الذهني بين المشروعين، فغابت سردية “المشروع الصهيو – صفوي – أمريكي” لتحل محلها سردية المساواة بين خطر وأولوية المشروعين الصهيوني و”الصفوي” أو “الفارسي” او “المجوسي” (دون الشعور بالحاجة للتفصيل بينها وتوضيحها).

لعبت هذه الخطوة على وتر المظلومية السورية الدامية، وبدرجة أقل العراقية واليمنية، ولم تقدها نخب خليجية أو مسؤولون في دول بعينها وإنما “النخب” العربية من الإسلاميين وغيرهم، الذين روَّجوا بنوايا طيبة ودون أن يدروا (معظمهم) أو عن سابق تصور وتصميم (البعض) لفكرة تبرئة العدو الصهيوني وإرجاعه إلى المرتبة الثانية من حيث الأهمية والأولوية، بل ومهاجمة وتشويه كل من يحاول التنبيه لخطر هذه الفكرة.

أنظر مثلاً للعدد الضخم من التقارير والمقالات التي دأبت على المقارنة بين سجون “إسرائيل” وسجون الأسد أو بين الحرية الممنوحة للعرب في دولة الاحتلال (كذا) والحرية الدينية والسياسية في إيران، وطريقة التعليق في وسائل التواصل الاجتماعي من شخصيات بعينها على كل خبر عن إجرام أو ظلم الكيان وربطها مباشرة بمقارنات سطحية مع إيران وتوابعها في المنطقة.

استخدمت “المقارنة العددية” سلاحاً في هذه المعركة، من باب أن من من قتلتهم “إسرائيل” من الفلسطينين والعرب لا يقارن من أي وجه بعدد شهداء سوريا (فضلاً عن العراق وغيرها)، وكأنَّ المقارنة بين المشاريع والدول تقوم على المقارنات العددية السطحية وليس على طبيعة المشاريع ومنشئها وأهدافها ومآلاتها وخطرها على الأمة ككل.

كما يدخل في باب تبرئة العدو تلك الكتابات التي تضع اللوم على المقاومة الفلسطينية في كل مناوشة مع الاحتلال، واعتبار ذلك خطة لتثبيت حكمها للقطاع أو بإيعاز من إيران وما إلى ذلك، بحيث تصبح حماس مثلاً هي المسؤولة عن إراقة دماء الفلسطينيين في غزة “بمغامراتها غير المحسوبة” وليس الاحتلال نفسه.

رابعاً، الاضطرار للتعاون: تفتقر الأمة ودولها وأنظمتها وقواها السياسية والمجتمعية للوعي بـ “فقه ألأولويات” وهذا أحد أهم أسباب تخلفنا، لكن بعض الأنظمة أرادت تعليم “فقه الأولويات السياسية” لشعوبها وشعوب المنطقة على طريقتها. والمعادلة بسيطة، إذا كانت إيران أخطر من “إسرائيل” وأولوية عليها، فلماذا لا نتعاون مع الخطر الأقل في مواجهة الخطر الأكبر؟؟!!

وككل المسرحيات العظيمة، ينبغي للمشهد الختامي أن يكون مبهراً وصادماً ولكن أيضاً مقنعاً في آنٍ معاً، لكن ثمة معضلة أخيرة بقيت: لماذا نتعاون مع عدو ضد عدو، فلنتعاون مع الأصدقاء وما أكثرهم. ويبدو أن افتعال الأزمة مع قطر وتوتير العلاقات على هامشها مع تركيا كانت جزءاً من الإجابة: أرأيتم؟ قطر وتركيا ليستا معنا بل ضدنا، ولذلك فنحن مضطرون، والمضطر لا إثم عليه.!!

وإذا كانت هذه هي الرؤية التي صاغت المسار فإنها اتخذت الكثير من الأدوات والوسائل المساعدة خصوصاً في مجال الإعلامي الذي تمتلك فيه كل من السعودية والإمارات حضوراً واضحاً وواسعاً ومؤثراً منذ سنوات طويلة، ولكن كان لا بد من استثمار وسائل التواصل الاجتماعي أيضاً استشعاراً لأهميتها. صُنعت شخصيات إعلامية وسياسية من لا شيء بعدما وفرت لها المنصات والمنابر والأموال، وأوكلت لها مهمة نشر سردية “الملالي” و”المجوس” و”أهل السنة” بخطاب مغرق في الشعبوية ودغدغة العواطف وبعيد عن الحقيقة والموضوعية والعقلانية.

وتلقفت الجماهير هذا الخطاب الشعبوي بوافر الترحاب وجعلت من النكرات نجوماً ورموزاً وقيادات، ولم يخطر في بالها مثلاً أن بعض أهم المتصدرين للدفاع عن “أهل السنة في وجه الملالي” ليسوا مسلمين أصلاً (!) ولا يكتبون بأسمائهم الحقيقية، وأن من أسموه “أسد أهل السنة” ليس سنياً وإنما من الطائفة الأخرى (!) وأنه لم يكن يوماً نصيراً للثورة السورية بقدر ما كان خصماً للأسد وإيران وحزب الله وفق الدور المرسوم له، فإذا ما حانت اللحظة وقيل له للخلف در استدار.

بالتأكيد يحتاج الأمر مع الكثيرين بل مع الأغلبية لما هو أكثر من ذلك، فكانت ثمة خطوات تكتيكية لكن مهمة تخدم هذا السياق، مثل:

– تقديم فكرة التقارب مع الكيان الصهيوني على أنه مصلحة للفلسطينيين، وهي نفس فكرة ترمب – نتنياهو باستبدال مسار التطبيع مع العالم العربي، الذي كان يفترض وفق المبادرة العربية للسلام أن يبدأ بتسوية مع الفلسطينيين ثم العرب (in-out peace process) إلى تسوية مع العرب أولاً ليستفيد منها المسار “الإسرائيلي” – الفلسطيني (out-in peace process).

– تكميم الأفواه والتعتيم الإعلامي من جهة وفرض ثقافة التأييد المطلق من جهة أخرى تحت عنوان الوطنية، ولعل تأييد عدد كبير من مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي لحصار قطر (مثلاً) ثم مغادرة عدد كبير منهم أيضاً تويتر وغيره بشكل متزامن من أبرز الدلالات على قرب اتخاذ خطوات يراد لها أن تمر بصمت.

– انتشار هاشتاغ مؤيد للتطبيع في المملكة العربية السعودية بهدف كسر الحاجز النفسي من قبل قلة قليلة، وقد ردت عليه أغلبية الشعب السعودي بهاشتاغ مضاد رافض للتطبيع تفوق عليه.

– محاولة تزييف وعي الشعب السعودي والشعوب الخليجية بكتابات تركز على فكرة عدم إيذاء “الإسرائيليين” للخليج بشكل مباشر، أو بإمكانية التقارب معهم ما دام هناك “مصلحة يقدّرها ولي الأمر”، أو باعتبارهم “يهوداً” لا ينبغي معاداتهم وليس “محتلين” صهاينة من الواجب مقاومتهم كما دأب بعض نخب الإمارات على الكتابة ولحق بهم أحد دعاة السعودية مؤخراً باعتبار أن “خطر الشيعة” أكبر وأولى وفق “فقه النوازل”.

– مقالات بعدد غير قليل تربط أولاً بين المقاومة الفلسطينية ودولة قطر (بعدما تمت شيطنتها) ومن قبل ذلك ربطها بإيران، وبالتالي تجريمها واتهامها بالإرهاب، وفي هذا السياق يأتي تصريح وزير خارجية السعودية عادل الجبير بضرورة ابتعاد قطر عن الإخوان وحماس.

في كتابه “صراع الأفكار في البلاد المستعمرة”، يسرد مالك بن نبي بعض الحيل التي يُلجأ لها لتشويه الخصم والتشويش عليه للنيل من سمعته واغتياله معنوياً أو لخدمة أهداف أخرى أبعد من ذلك. ومن تلك الحيل، حين يصعب التشويه المباشر، تشويه طرف ثانٍ على علاقة بالطرف المطلوب تحطيمه وتكون العلاقة التي تجمعهما هي سبيل إدانة الطرف الأول بطريقة غير مباشرة لكن مؤثرة. ولعل عدم القدرة و/أو الرغبة في القفز مباشرة إلى تشويه حركة مقاومة فلسطينية للمشروع الصهيوني تحصر عملها في فلسطين المحتلة كحركة حماس هو ما تطلّب خطوة سابقة على ذلك وهي تشويه قطر وربطها بإيران بحيث أمكن بعد ذلك الوصول لمرحلة اعتبارها منظمة إرهابية، ولعلها بحد ذاتها خطوة وسيطة تمهّد لما أسميه في هذه المادة “مشروع التطبيع” مع دولة الاحتلال.

 

ماذا بعد؟

قد تبدو بعض هذه الأفكار تحاملاً أو مبالغاً بها، لكن نظرة دقيقة على كامل المسار منذ إرهاصاته الأولى تشير إلى خطة متدرجة تريد الوصول لغاية واضحة.

ولعل أزمة قطع العلاقات مع قطر مؤخراً وما دار على هامشها من خطاب وإجراءات تأتي في صلب هذا المشروع. ليس بالضرورة طبعاً أن يكون مشروع التطبيع أحد أهداف الأزمة المفتعلة فلها أسبابها ودينامياتها الخاصة بها، لكن تداعياتها أفادت المسار بشكل واضح من عدة زوايا، أهمها شيطنة حماس والمقاومة الفلسطينية ووضع أي نقد او رأي مخالف للسياسات الخارجية لكل من السعودية والإمارات تحت طائلة المساءلة القانونية واتهامات الخيانة، فضلاً عن فكرة انتفاء “الحلفاء” في مواجهة “الخطر الإيراني” مستقبلاً إلا من دولة الاحتلال.

من اللافت مثلاً أن كل ما سبق ذكره من خطوات تطبيعية او ترويجية للتطبيع تواجه من قبل الكثيرين من النخب والعوام في بعض الدول الخليجية بخطابين، الأول هجومي تبريري يستند إلى حالة الاستقطاب الحالية باعتبار أن دولاً من “المحور الآخر” من المطبعين  أيضاً، والثاني دفاعي إنكاري يعتبر أن الأشخاص المطبعين لا يعبرون عن المؤسسة أو الدولة وإنما يمثلون أنفسهم فقط، متجاهلين غياب المحاسبة والعقاب (فالتطبيع يفترض أنه مجرّم) ومتناسين – عمداً – مدى انخفاض سقف الحرية في التعبير عن الرأي والرؤية المختلفة مع القرار السياسي للدولة/النظام في دول تجرّم مجرد “تغريدة” تتعاطف مع شقيق محاصر.

في “الحداثة والهولوكوست”، يشرح زيغمونت باومان باستفاضة تجربة “ميلغرام” التي تختبر المدى الذي يمكن أن يصله الفرد في إيذاء الغير ما دام هناك أمر من سلطة عليا. يرى عالم الاجتماع البارز أن هناك تخويلاً لصاحب السلطة بطلب أشياء ما كان للمشارك في التجربة أن يفعلها من تلقاء نفسه، لأن ثمة افتراضاً بأن هناك منطقاً غامضاً ومجهولاً (ومصلحة متحققة؟) لا يدركه المشارك. تثبت التجربة، يقول باومان، أن العنصر الحاسم في التجربة هو الاستجابة للسلطة وليس الاستجابة للأوامر “الضارة” وأن ما يفعله الأفراد ليس هو المحك بل لمن يفعلونه، الأمر الذي يفضي إلى “مسؤولية عائمة”، ويبدو أن هذا ما يُسكت الكثيرين حتى الآن وما تعوّل عليه السلطات لاحقاً.

ولعل ثمة أسئلة وجيهة تطرح نفسها على الموضوع وعلينا، مثل المدى الذي يمكن أن يصل إليه هذا المشروع، وفرص نجاحه ووصوله إلى مبتغاه تحت مسمى “الحلف الشرق أوسطي”، وردات الفعل الشعبية الداخلية في كل من السعودية والإمارات وغيرهما سيما من الدعاة والعلماء. ولكن السؤال الأهم الذي يراودني هو: هل يمكن أن يصل الأمر ببعض النخب السياسية والإعلامية العربية – الخليجية أن تؤيد عدواناً صهيونياً على قطاع غزة مستقبلاً باعتباره يستهدف “منظمة إرهابية تتعامل مع إيران وقطر” أو على الأقل باعتباره صراعاً بين “فئتين ضالتين” سيسألُ بعض أصحاب العمم واللحى اللهَ أن يضربهما ببعضهما البعض ويُخرج “المسلمين” من بينهما سالمين، كما سمعنا من بعض الأصوات الشاذة؟!!

شارك الموضوع :

اترك رداً