سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

زيارة اردوغان لواشنطن والمهمة الصعبة

0

 

زيارة اردوغان لواشنطن والمهمة الصعبة

 

المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية

يشهد شهر أيار/مايو الحالي نشاطاً ملحوظاً للدبلماسية التركية بقيادة اردوغان، يحمل معانٍ سياسية واقتصادية مهمة، إذ زار في بداياته كلاً من الهند وروسيا ثم الكويت، ويتجه بعد يومين إلى الصين ومنها للولايات المتحدة الأمريكية، ثم يختمه بقمة الناتو في بروكسل نهايات الشهر.

من بين كل هذه الزيارات، تكتسب زيارة اردوغان لواشنطن ولقائه ترامب في السادس عشر من الشهر الحالي أهمية استثنائية، ليس فقط للعلاقات التاريخية بين البلدين اللذيْن يربطهما تحالف استراتيجي منذ عام 1995، ولا لأنها أول زيارة في عهد الإدارة الأمريكية الجديدة وحسب، ولا للعلاقات الاقتصادية والسياسية والملفات ذات الاهتمام المشترك وحسب، ولكن بسبب التعويل التركي على إمكانية انتهاج ترامب سياسة مختلفة مع أنقرة عن تلك التي خطها سلفه أوباما، وأيضاً – وتحديداً – نتيجة للقرار الذي اتخذه الرئيس الأمريكي قبل أيام من الزيارة.

تأزمت العلاقات بين واشنطن وأنقرة في الولاية الثانية لأوباما سيما في نهاياتها لعدة أسباب أهمها اثنان، الدعم الأمريكي المتواصل لحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) وأذرعه العسكرية في سوريا والتي تصنفها أنقرة على قوائم الإرهاب لعلاقتها العضوية والتنسيقية مع حزب العمال الكردستاني، وعدم تسليم واشنطن لأنقرة فتح الله كولن زعيم “التنظيم الموازي” المتهم الأول في المحاولة الانقلابية الفاشلة في تموز/يوليو الفائت.

أمِلت تركيا في أن يأتي تغيير الشخص والحزب بعد أوباما بتغير مهم في قرار البيت الأبيض إزاء الملفين خصوصاً وأنها سمعت بعض التصريحات المشجعة في هذا الاتجاه، إلا أن الواقع العملي لم يصدق تلك التصريحات، بل إن أقرب الشخصيات لأنقرة وهو مستشار الأمن القومي (السابق) مايك فلين الذي اتضح أنه عمل بشكل رسمي في مجال جماعات الضغط (اللوبيات) لصالح تركيا قد اضطر للاستقالة من منصبه إثر مزاعم عن تواصله مع مسؤولين روس.

وفي ظل التطورات المتسارعة في المشهد السوري سيما ما يتعلق بالملف الكردي ومع احتدام حملة مكافحة “التنظيم الموازي” في الداخل التركي، علقت أنقرة آمالاً كبيرة على زيارة اردوغان لواشنطن بعد أيام وأرسلت وفداً رفيع المستوى للترتيب للزيارة تكون من الناطق باسم الرئاسة إبراهيم كالين ورئيس أركان الجيش خلوصي أكار ورئيس جهاز الاستخبارات حاقان فيدان، فضلاً عن وفد من وزارة العدل برئاسة الوزير بكير بوزداغ التقى نظراءه الأمريكيين لمناقشة ملف كولن.

ولأن التعويل التركي مبني على الآمال ورغبة الضغط على واشنطن لتحقيق شيء أكثر مما يعتمد على مواقف أو تصريحات مشجعة من الولايات المتحدة، وعلى وقع التصريحات والمواقف الأمريكية في سوريا مؤخراً، فلم تتردد أنقرة في استباق الزيارة بالإعلان عن “مناطق خفض التصعيد في سوريا” كاتفاق ثلاثي بينها وبين روسيا وإيران. في المقابل، وقع ترمب قبل أيام قليلة فقط من لقائه مع نظيره التركي قراراً يسمح للبنتاغون بتسليح المنظمات الكردية المسلحة في سوريا بأسلحة ثقيلة.

يحمل القرار الأمريكي دلالات ورسائل عدة في حقيقة الأمر. إذ يتضمن القرار مفاضلة أمريكية بين تركيا والفصائل الكردية المسلحة لصالح الأخيرة، كما يشير إلى قرب الإعلان الرسمي عن بدء معركة الرقة والتي يمكن اعتبار أنها بدأت فعلياً منذ مدة. من جهة ثانية، لا يمكن إغفال أثر الضغوط الداخلية التي يعاني منها ترامب على إثر إقالته لرئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBİ) على هذا القرار، بما يحمل معنى الهروب للأمام وافتعال أجندة خارجية تسحب الاهتمام من ذلك الملف. وأخيراً، يدلل القرار على مستوى حرص واشنطن على رضى أنقرة والعلاقة معها إذ أتى قبل أيام فقط من زيارة اردوغان وخلال زيارة الوفد التركي لواشنطن ولقائه ترامب.

بهذا القرار تفقد تركيا هامشاً لا بأس به من المناورة فيما يتعلق بملف المنظمات الكردية المسلحة في سوريا وفيما يخص ترتيبات معركة الرقة أيضاً، رغم التطمينات التي تحاول واشنطن أن تقدمها والضمانات التي تتحدث عنها، فغاية أنقرة منذ سنوات أن تستطيع إقناع حلفائها بوضع هذه المنظمات على قوائم الإرهاب أسوة بحزب العمال الكردستاني واعتماد التحالف الدولي على الجيش السوري الحر والمجموعات المدعومة من طرفها في معركة الرقة وغيرها.

لا يبدو لي أن تركيا قد فقدت تماماً أوراق قوتها في الملف السوري، فما زالت الدولة الإقليمية القوية والجارة الحدودية لسوريا، وما زالت على علاقة وثيقة بجزء مهم من المعارضة السورية السياسية والعسكرية وذات نفوذ ملحوظ عليها، وتحافظ على تواجد عسكري لها على الأرض السورية، وعلى علاقة تفاهم وتنسيق بمستوى ما مع موسكو صاحبة النفوذ العسكري والسياسي في سوريا وعلى النظام تحديداً، فضلاً عن دورها المنتظر والذي يصعب الاستغناء عنه في “مرحلة ما بعد داعش” وعملية إعادة الإعمار وما إلى ذلك.

لكن رغم ذلك، لا تبدو أوراق القوة التركية كافية لإثناء واشنطن عن قرارها ومسارها، وإلا لانتظر ترامب عدة أيام لبحث الأمر مع اردوغان، بل يبدو وكأن الأول قد تعمّد استباق الزيارة بالقرار لفرض أجندة مختلفة لها، بحيث تنتقل أنقرة من موقع المبادِر الضاغط إلى المدافع المضغوط عليه، ولعل لذلك أهدافاً أخرى ترتجيها واشنطن.

وفق التصريحات التركية، سيحمل اردوغان في جعبته صوراً تجمع القوات الأمريكية مع الفصائل الكردية في الشمال السوري احتجاجاً عليها، و”أدلة” على العلاقة العضوية بين حزب الاتحاد الديمقراطي وأذرعه وبين حزب العمال الكردستاني المصنف على قوائم الإرهاب الأمريكية والأوروبية أيضاً، وأخرى على انتقال الكثير من الأسلحة الأمريكية والروسية والألمانية من وحدات حماية الشعب إلى العمال الكردستاني لاستخدامها ضد تركيا وعلى أراضيها. لكن إلى أي مدى ستكون تلك الصور والأدلة مقنعة بالنسبة لترامب؟

رغم كل الدفوعات التركية والتحفظات التي تبديها منذ سنوات، لا زالت واشطن ترى في المنظمات الكردية اللاعب المحلي الأفضل بالنسبة لها للدفع به في حرب “داعش”، ليس فقط لعددها وتدريبها واختبارها في عدد من المواجهات، بل لما له علاقة بالتصور الأمريكي لمستقبل المنطقة وتقسيم النفوذ والجغرافيا والحدود فيها، وأيضاً لأن توجه هذه المنظمات وأيديولوجيتها لا يخيفان واشنطن على المدى البعيد في مقابل فصائل “إسلامية التوجه” تستحث لدى ساكن البيت الأبيض توصيفات مثل “الإرهاب الإسلامي المتشدد”.

وفي حين تريد تركيا من الولايات المتحدة الإيفاء بتعهداتها السابقة بخروج قوات سوريا الديمقراطية من منبج، تتواجد القوات الأمريكية معها وتنتشر على الحدود التركية – السورية لحمايتها من أنقرة، وتعتبرها شريكاً رئيسياً في معركة الرقة بما يعني – مبئدياً – استبعاد أنقرة التي اشترطت مراراً استثناء المنظمات الكردية لمشاركتها.

ما زال الوقت باكراً للجزم بمآلات الملف، فنحن إزاء عملية عسكرية معقدة ستمتد زمناً طويلاً وتحتاج فيها الولايات المتحدة لكل جهد وجميع الفاعلين سيما تركيا، بما يمكن أن يضع على الطاولة عدة سيناريوهات قد تجد أنقرة في أحدها ما يمكنها قبلوه بالحد الأدنى. من هذه السيناريوهات تغليب القوات العربية والتركمانية المشاركة ضمن قوات سوريا الديمقراطية (غالبيتها من وحدات الحماية الكردية)، و/أو إبقاء الأخيرة على الهوامش وعدم إشراكها في معارك قلب المدينة كما حصل مع الحشد الشعبي في معركة الموصل، و/أو تقديم ضمانات لها باسترجاع واشنطن للأسلحة الثقيلة وضمان عدم انتقالها ليد الكردستاني (بعض التصريحات الأمريكية تنفي نيتها لذلك).

لكن الأهم بالنسبة لتركيا هو وضع الرقة بعد إخراج داعش منها ومدى نفوذ وحدات الحماية فيها، فأولويتها الأولى عدم إكساب حزب الاتحاد وأذرعه العسكرية مشروعية إقليمية متزايدة قد تنعكس على الكردستاني وعدم سيطرته على المناطق ذات الأغلبية العربية والتركمانية بما يمكن أن يفتح الباب على انتهاكات أو تغييرات ديمغرافية شهدتها مناطق عدة في سوريا سابقاً وحالياً.

في هذا المشهد المعقد، يبقى لتركيا ورقتا ضغط إضافيتان. فقد أظهرت سابقاً استعدادها للتدخل العسكري المباشر في سوريا وفق محددات أمنها القومي وبما تفرضه أولوياتها هي دون التنسيق المسبق والمعمق مع واشنطن (وبدرجة أقل روسيا)، كما حصل في عملية درع الفرات وفي قصف جبال كاراتشوك شرق الفرات لأول مرة قبل أيام. وبالتالي تبقي أنقرة في يدها خيار المبادرة الفردية من طرفها في أي وقت، رغم ما تحمله من مخاطر ميدانية وعسكرية وسياسية مرتبطة بعلاقتها بالولايات المتحدة وتواجد قواتها هناك، وهو ما تشير إليه تصريحات الساسة الأتراك التي تحيل إلى قدرة بلادهم على “قطع حبلها السري بنفسها” في حال تخلى عنها الأصدقاء.

والخيار الآخر التي تملكه أنقرة للضغط على واشنطن ولكن على المدى البعيد هو مسار تقاربها مع موسكو وتوجهها النسبي نحو الشرق لمحاولة إضافة شيء من التوازن على محاور سياستها الخارجية، سيما إذا ما استطاعت تتويج جهودها بالحصول على منظومة إس-400 الدفاعية من روسيا، وهو الملف الذي يثير حفيظة الولايات المتحدة وحلف الناتو كثيراً.

ليس متوقعاً إذاً أن يستطيع اردوغان إقناع ترامب بالعدول عن قراره، وربما كان جل ما يستطيعه هو محاولة الحد من أضرار القرار وانعكاساته السلبية على تركيا، سيما وأن الاستحقاقات الداخلية قد تدفع ترامب فعلاً لتسريع خطوات معركة الرقة هروباً للأمام. يعني ذلك أن الزيارة “التاريخية” لاردوغان إلى الولايات المتحدة قد تزيد في عمق أزمة العلاقات بدل حلها رغم الحرص التركي الواضح على ضبط التصريحات والمواقف إزاء واشنطن حتى بعد القرار الأخير.

ولذلك، سيكون للزيارة ومخرجاتها، إضافة لزيارة ترامب المنتظرة إلى الرياض وحديثه عن تحالف عربي – إسلامي برعاية الولايات المتحدة لمكافحة “الإرهاب”، سيكون لهما أهمية كبيرة في فهم ليس فقط مسار العلاقات التركية – الأمريكية المستقبلي ولكن أيضاً حالة الاصطفاف والتحالفات في المنطقة وتطورات أحداثها في المدى القريب وشكل المنطقة ككل ومصيرها على المدى البعيد.

شارك الموضوع :

اترك رداً