سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

هل يفتح الاستفتاء أفقاً للقضية الكردية في تركيا؟

0

 

هل يفتح الاستفتاء أفقاً للقضية الكردية في تركيا؟

 

عربي 21

ثمة دلالات كثيرة ورسائل متعددة حملتها النتائج الأولية المعلنة للاستفتاء الشعبي على التعديل الدستوري للتحول للنظام الرئاسي في تركيا، يتعلق بعضها بنسب المدن الكبرى، وبعضها الآخر بأصوات حزب الحركة القومية، وبعضها الثالث بعزوف جزء من أنصار العدالة والتنمية عن تأييد مشروع حزبهم، بيد أنني أعتقد أن الدلالة الأبرز والأكثر تأثيراً كانت تصويت المناطق ذات الأغلبية الكردية.

كانت تلك ملاحظة مبدئية أملتها النتائج الأولية التي خرجت مساء يوم الاقتراع في السادس عشر من نيسان/أبريل الحالي، لكنها تعززت بعد صدور النتائج التفصيلية لمختلف المحافظات ومقارنتها بنتائج تلك المحافظات في مناسبات انتخابية سابقة. ورغم أن إسطنبول هي المدينة التي تحوي العدد الأكبر من الناخبين الأكراد، لكن تداخل تركيبتها الجغرافية والسكانية يحُدُّ من إمكانية المقارنة والخروج بدلالات ما، بينما تبدو مناطق الأغلبية الكردية في شرق البلاد وجنوبها الشرقي معياراً قابلاً للقياس في هذا الإطار.

بيد أنه من المفيد والموضوعي ابتداءً التأكيدُ على أن الاستفتاء على تعديل دستوري يختلف اختلافاً جذرياً من حيث الفلسفة والفواعل والديناميات وبالتالي النتائج والاستنتاجات عن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والمحلية، بما يعني أن المقارنة المباشرة بين تلك النتائج وسابقاتها ليس دقيقاً ولا يفضي إلى نتائج سليمة. لكن الأمر لا يخلو من دلالات وإشارات واضحة، سيما في ظل حالة الاستقطاب التي سادت الحملات الانتخابية وبلورت محورين: الأول يضم العدالة والتنمية والحركة القومية (القومي التركي) بقيادة الرئيس اردوغان والثاني يضم الشعب الجمهوري والشعوب الديمقراطي (القومي الكردي) بقيادة رئيس الأول كمال كليتشدار أوغلو، كما بسبب الخريطة العرقية والمجتمعية والسياسية في تلك المناطق التي يسيطر عليها الشعوب الديمقراطي بشكل كبير ولا ينافسه فيها إلا العدالة والتنمية في مقابل شبه غياب تام لباقي الأحزاب.

بهذا المعنى، يبدو من المنطقي أن يُستأنس بمقارنة نسبة التصويت بـ”لا” مع الأصوات التي حصل عليها حزب الشعوب الديمقراطي في آخر انتخابات برلمانية (نوفمبر 2017)، وبدرجة أقل بكثير بين نسبة التصويت بـ”نعم” بأصوات العدالة والتنمية في نفس الانتخابات، مع التاكيد مجدداً أن المقارنة التامة غير دقيقة سيما في ظل اختلاف نسبتي التصويت بينهما (%82 في الاستفتاء و%77.9 في البرلمانية). يمكن أيضاً عقد مقارنة سريعة مع نتائج انتاخبات الرئاسة في 2014، بينما تعتبر الانتخابات البرلمانية في حزريان/يونيو 2015 (والتي أعيدت) استثنائية وخارج السياق مما يصعّب من البناء عليها والمقارنة معها.

تناول عدد من المقالات والتحقيقات الصحافية نسبَ التصويت في 12 محافظة في شرق وجنوب شرقي تركيا يسيطر فيها حزب الشعوب الديمقراطي بشكل كبير. تـُجمع هذه التحقيقات، وفق الأرقام الأولية للاستفتاء التي أعلنتها وكالة الأناضول (في انتظار إعلان اللجنة العليا للانتخابات عن النتائج النهائية الرسمية)، على الفارق الواضح بين ما حصّله حزب الشعوب الديمقراطي في انتخابات نوفمبر 2015 وبين التصويت برفض التعديل الدستوري مؤخراً على مستوى نسبة التصويت وعدد المصوتين على حد سواء.

وفي مقارنة سريعة بين  المناسبتين، يبدو أن حزب الشعوب الديمقراطي قد فقد أكثر من 300 ألف صوت بما يشكل تراجعاً في حدود %7 من نسبة التصويت له. فإذا ما حسبنا مساهمة حزب الشعب الجمهوري في التصويت بـ”لا” في تلك المحافظات والمقدّرة في حدود %2 (حسب نسبة التصويت له في 2015)، سيكون الشعوب الديمقراطي قد فقد %9 من أصواته على أقل تقدير. نتحدث هنا طبعاً عن تراجع نسبي وليس مطلقاً، فتلك المحافظات لم تمرر التعديل الدستوري وإنما رفضته بنسبة %61.24 في المعدل (في محافظتين فقط تفوق المؤيدون على الرافضين)، لكننا نقارنها هنا بـ 68.47% حصل عليها الحزب في آخر انتخابات برلمانية.

الأهم أن هذا التراجع ملحوظ على مستوى كل تلك المحافظات باستثناء اثنتين فقط هما إغدير وتونجالي (مسقط رأس زعيم المعارضة) وهما الأقل حجماً من حيث عدد المصوتين بين المحافظات الـ12، وبالتالي فمن الواضح أن الأمر أقرب للظاهرة وأبعد عن فكرة المصادفة.

اللافت للنظر أكثر أن نتائج الاستفتاء تبدو أقرب نسبياً لنتائج انتخابات الرئاسة في 2014 حيث ترشح رئيس حزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرطاش مقابل اردوغان (ومرشح ثالث)، وهنا يبدو الفارق بين التصويت لدمير طاش ورفض التعديل الدستوري في حدود 100 ألف صوت فقط (%4)، رغم أن الإجمالي للمصوتين في تلك المحافظات زاد بأكثر من 275 ألف ناخب عنه في انتخابات الرئاسة (نسبة التصويت في الرئاسية %72.4 وفي الاستفتاء %77.9).

إذن، وخروجاً من تفاصيل الأرقام، ثمة “رسالة” واضحة في تصويت مناطق الأغلبية الكردية، رغم أنه – مجدداً – لا يمكن إجراء مقارنة كاملة بين المناسبات الانتخابية المختلفة. وتبدو الرسالة هنا مزدوجة، في اتجاه حزب الشعوب الديمقراطي أولاً كاحتجاج على سياسته القريبة من العمال الكردستاني، ونحو الرئيس اردوغان ثانياً (أكثر من العدالة والتنمية) فيما يتعلق بمستقبل القضية الكردية في تركيا.

يصوت لاردوغان والعدالة والتنمية تقليدياً طيف مهم من الأكراد “الإسلاميين” والمحافظين، لكن الاستفتاء كشف عن تصويت نسبة مهمة من حاضنة الشعوب الديمقراطي أيضاً لصالح النظام الرئاسي، وهنا تكمن الرسالة. رسالة أمل بأن يأتي النظام الرئاسي بإمكانية حلحلة الجمود في القضية الكردية الداخلية في تركيا، ورسالة ثقة بأنه إن كان ثمة سياسي في تركيا يمكنه أن يقدم حلاً لها فهو اردوغان. ولعل اللافت أن هذه “الرسالة” قد أتت في مرحلة يتحالف فيها العدالة والتنمية انتخابياً مع حزب الحركة القومية ذي الخطاب الحاد فيما يتعلق بالقضية الكردية والداعي دائماً للحل الأمني  – العسكري.

واردوغان بالنسبة لهم ليس مجرد قائد العدالة والتنمية والرئيس الحالي والسياسي القوي القادر على تنفيذ رؤاه وقراراته وحسب، بل هو أيضاً صاحب الإنجازات المهمة فيما يتعلق بأكراد تركيا بعد عشرات السنين من المظلومية والانتظار. فقد كان أول قرارات حكومة العدالة والتنمية الأولى في 2003 رفع حالة الطوارئ عن مناطق الشرق والجنوب الشرقي، كما نفذت حكومات الحزب المتعاقبة سلسلة من الإصلاحات القانونية والسياسية إلى جانب التنمية الاقتصادية لتلك المحافظات، وصولاً إلى مسيرة الحل السياسي التي كان يفترض أن تدخل في مرحلة التفاوض المباشر بين الحكومة وحزب العمال الكردستاني قبل أن تتوقف في شباط/فبراير 2015 ثم يستأنف الأخير عملياته العسكرية في تموز/يوليو 2015 وحتى الآن.

بيد أن هذا التصويت لم ينبن – فيما أرى – على ماضي الرجل وإنجازاته فقط، فقد تضمنت خطابات اردوغان الأخيرة قبيل الاستفتاء إشارات حول مستقبل الحل وإمكانية العودة “للطاولة” باشتراط وقف العمال الكردستاني عملياته أولاً “ودفن سلاحه” بلا قيد أو شرط، في اختلاف واضح عن الخطاب الرسمي التركي منذ بداية مرحلة التصعيد العسكري. أكثر من ذلك، تسببت تصريحات أحد مستشاري الرئيس التركي قبل يومين من الاستفتاء حول ما أسماه “إدارة المدن” المطلوبة في ظل النظام الرئاسي باستدعاء الحديث والتخوفات من فكرة الفدرلة أو تقوية الإدارات المحلية في المحافظات، وهي الفكرة التي كان يحملها العدالة والتنمية سابقاً وتخلى عنها منذ فترة خوفاً من سيناريوهات التقسيم والانفصال.

ويبدو أن هذه التصريحات قد لاقت صدى عند الناخب الكردي في مناطق الأغلبية الكردية، كما لم تفت هذه الملحوظة الواضحة جداً على اردوغان فخص بالشكر – بعد الشعب التركي عامة – تلك المناطق على تصويتها في كلمته ليلة الاقتراع آملاً بأن يكون الاستفتاء “بشرى بداية مرحلة جديدة في بلادنا”. لكن، هل ثمة فرصة لذلك؟

لطالما اعتبر اردوغان والعدالة والتنمية حل القضية الكردية مساراً استراتيجياً لتركيا لا غنى لها عنه لما تحمله من مخاطر التدخلات الخارجية وسيناريوهات التقسيم، بيد أن تفاعلات الإقليم – سيما الأزمة السورية – صعّبت من الحل وأبعدته عن الأجندة مرحلياً.

تسير الحكومة التركية مؤخراً وفق رؤية متعددة الأبعاد فيما يتعلق بقضيتها الكردية الداخلية ترتكز على مواجهة حاسمة للعمال الكردستاني عسكرياً، وخلق مسافة بينه وبين حاضنته الشعبية، والتفريق في الخطاب والممارسة بين “الأكراد” و”الإرهاب”، ودعم إيجاد بدائل ومنافسين له – أحزاباً ومؤسسات وأفراداً – في الساحة الكردية، وإدامة المشاريع التنموية في تلك المناطق، والتعاون مع حزب الدعوة الحرة “هدى بار” الكردي ومسعود البارزاني رئيس إقليم كردستاني العراق وغريم الكردستاني التقليدي، فضلاً عن منع/تأخير تقدم المشروع السياسي الكردي في الشمال السوري.

ويدرك صانع القرار في أنقرة بالتأكيد مدى الدعم الأمريكي والروسي المقدم للفصائل الكردية المسلحة (حزب الاتحاد الديمقراطي وأذرعه) في سوريا بما قد ينعكس بالسلب على الملف الكردي الداخلي، ويعلم أن كل جهوده قد لا تستطيع في نهاية المطاف منع هذا المشروع من التبلور على شكل دويلة أو إدارة ذاتية أو غيرهما. وعليه، فإن الأجدى والأضمن هو العمل على فتح مسار الحل السياسي الداخلي على المدى المتوسط، في ظل إشارات تراجع العمال الكردستاني عسكرياً ومؤشرات التململ منه وسط حاضنته الشعبية.

هذا هو الممكن بل هو المطلوب مستقبلاً، وإن باختلاف العنوان والفواعل والمسار، ولا يجب على العدالة والتنمية أن يفوت فرصة تاريخية ما زالت متاحة أمامه لإنهاء مظلومية تاريخية بارزة المعالم وغلق الملف الأكثر استنزافاً لتركيا منذ تأسيسها. ليست الطريق مفروشة بالورود ومؤشرات التصويت في الاستفتاء ليست حاسمة ونهائية بهذا الاتجاه، لكنها على الأقل تعطي الأمل بإمكانية ذلك، وقد يكون فعلاً اردوغان ومِنْ خلفِهِ العدالة والتنمية الفرصة الأخيرة بالنسبة لتركيا وأكرادها على حد سواء فيما يتعلق بهذه القضية تحديداً.

شارك الموضوع :

اترك رداً