سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

باسل الأعرج: شهيد لا شبيح

0

 

باسل الأعرج: شهيد لا شبيح .. !!

(في تحرير مصطلح “الشبيح”)

 

 

المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية

كتبتُ سابقاً عن تأثير الواقع في صياغة رؤيتنا للتاريخ وتقييم أحداثه وشخصياته، وضربتُ عدة أمثلة أهمها الاحتفاء بشخصية سيدنا أبي بكر (الحليم) في أزمنة القوة واستحضار شخصية سيدنا عمر (الحازم) في أزمنة الضعف، وإطلاقنا صفة “القانوني” على السلطان العثماني سليمان بسبب إصلاحاته القانونية المعروفة في حين يطلق عليه الغرب اسم “العظيم” بسبب الحروب التي خسروها أمامه (1).

وإذا كانت الظروف الصعبة تحديداً تؤثر في تفسيرنا للتاريخ فإنها أجدر أن تتدخل في تقييمنا للواقع والشخصيات التي نعايشها، فنكون أكثر تسامحاً وأوسع أفقاً في مراحل الرخاء وأكثر تشدداً وأضيق صدراً في أزمنة الضعف والتراجع، وهذا ما يحصل حالياً.

قبل أيام استشهد الشاب الفلسطيني باسل الأعرج في مواجهة مع الاحتلال الصهيوني وحظي باحتفاء فلسطيني وعربي خاص تحت عنوان “المثقف الشهيد” أو “المثقف المشتبك” وهو المصطلح الذي نحته باسل في حياته ثم كرسّه وخلّده بدمائه. في ذروة هذا الاحتفاء بشاب خاض تقريباً كل مستويات المواجهة مع الاحتلال من العلم والثقافة إلى الاهتمام بالتاريخ إلى العمل الإعلامي إلى المظاهرات إلى المواجهة المسلحة فضلاً عن تجربة السجن في سجون السلطة، طالعتنا بعض المنشورات لبعض الأصدقاء السوريين والعرب تنتقص منه بسبب ما اعتبروه “موقفه من الثورة السورية”، وصولاً لاعتباره “شبيحاً” من قبل البعض ودعاء آخرين عليه بالـ “خلود في نار جهنم”.!!

راجعتُ المقولات التي تم استحضارها بين يدي هذا الجدل نقلاً عن صفحته على الفيسبوك، فوجدته يتحدث عام 2012 (بعد أقل من عام على بدء الثورة السورية) عن “المذبحة” السورية ويلوم بعض الفلسطينيين الذين لم يروها إلا حين طالت المخيمات الفلسطينية في سوريا، ووجدته يدعو لـ”شنق بشار الأسد بأمعاء بعض المعارضين” لخلاص سوريا، فيما كان ثمة تغريدة له ترفض تسمية حزب الله اللبناني بـ”حزب اللات” باعتباره واجه دولة الاحتلال الصهيوني (وبألفاظ أتحفظ على ترديدها).

المفارقة كبيرة إذن، فالشاب – رحمه الله – كان واضحاً في دعم حق الشعب السوري وفي تجريم بشار الأسد لكنه حمل رأياً مختلفاً فيما يتعلق بحزب الله، لأسباب تتعلق بمواجهة الكيان الصهيوني وصورة نقية ما زال يحملها عن الحزب، سيما في حرب 2006.

قبل أسابيع، استضاف الإعلامي علي الظفيري في برنامجه “المقابلة” الفنان والسياسي السوري جمال سليمان، فطالعتُ في وسائل التواصل الاجتماعي نقاشاً يتحفظ على “تلميع” الظفيري والجزيرة لشخصية “شبيحة” وتقف مع الأسد مثل جمال سليمان. ولأنني لا أعرف عن الرجل إلا بعض الأعمال الدرامية وأهمها “التغريبة الفلسطينية” في دور “القائد أبي صالح” فقد عكفت على مشاهدة حلقة “المقابلة” وبعض اللقاءات الإعلامية السابقة له.

رأيت الرجل على شاشة الفضائية السورية (النظام) في 2011 يتحدث عن قتلى الجيش والقتلى من المدنيين ويدعو لحقن الدماء والانتباه من تدحرج الأمور، ورأيته يغادر سوريا بعد التضييق عليه لأنه لم يسبح بحمد الأسد، ورأيته يحذر في 2012 من التدخل الخارجي في سوريا، ورأيته مؤخراً لا يستطيع المشاركة في جنازة والده في سوريا، ورأيته يختط “طريقاً ثالثاً” بين النظام والمعارضة التقليدية جعلته أحد رموز “منصة القاهرة”، بل وتابعت له لقاءً إعلامياً (لم يعجبني بطبيعة الحال) كاد أن يبرئ النظام من فشل محطات جنيف السابقة ويحمل مسؤولية ذلك للمعارضة.

حسناً، ليس كاتب هذه السطور من الداعين لتقديس كلام الشهداء أو المضحين أو تمجيد كل من يحمل السلاح رغم بالغ تقديري واعتزازي بكل مقاوم ومجاهد وشهيد (2)، كما أنني لست مع إلغاء الفوارق بين التوجهات السياسية وامتداح أخطاء الغير تحت لافتة العمل المشترك وتجميع الجهود، على أهمية ذلك.

بيد، ثمة حاجة لتفكيك المشاهد المركبة ومقاربة المواقف الملتبسة، وهناك ضرورة لفهم مواقف الناس كما هي وتقبل الاختلاف في التفاصيل ما لم يخدش المبادئ العامة، إذ يختلف الناس في مقارباتهم و معاييرهم ورؤيتهم للأمور فضلاً عن طريقة تعبيرهم عن آرائهم. إن “الكل أو لا شيء” قانون فيزيائي (All or None Law) وينطبق على عمل بعض خلايا الجسم، لكنه لا يناسب العمل السياسي وتشابكاته.

إن الثورة ليست شيئاً ملموساً ومحدداً بل هي عنوان عام يجمع تحته الكثير الكثير من الأسباب والسياقات والتزامنات والفواعل والشخصيات والأحداث والتدخلات والتطورات والمآلات والحسابات، وبالتالي تتعدد تقييمات الناس “للثورة” حسب زاوية نظرهم وخلفياتهم وتقييمهم حتى ولو اتفقوا على مشروعيتها وأحقية أسبابها، مثلاً.

يمكنك أن تكون إلى جانب حقوق الشعب السوري (أو أي شعب آخر) وتتحفظ في نفس الوقت على الكثير من الشخصيات والأحداث والسياسات والقرارات، بل لعله يتوجب عليك ذلك، لنفس الدافع الأخلاقي الذي صاغ موقفك المبدئي من الثورة. فلا مشروعية الثورة تبرر الأخطاء في الممارسة، ولا المسارات الخاطئة تلغي مشروعية الثورة، وهذه معادلة صعبة لكنها ماثلة أمامنا في كل قضايانا. كما أن الأخطاء الكثيرة والكبيرة التي اقترفتها أطراف في المعارضة – علينا أن نعترف – ينبغي أن تدفعنا لشيء من التواضع في تقييم الاعتراضات والتحفظات مهما كانت قاسية.

بعد استشهاد باسل الأعرج كتب أحد الأصدقاء السوريين من شباب الثورة الأطهر كلاماً نقياً راقياً، عبر فيه عن “انكساره” لأن الأعرج لم يكن معه على نفس الموقف من الثورة السورية، معتبراً “أننا فشلنا في إقناعه”. لكن هذا الصديق تراجع بعدها عن كلامه تحت ضغط بعض المعلقين، معتبراً أنه أخطأ وأن “جلال لحظة الشهادة” فرض عليه ذلك الكلام بدافع العاطفة. بينما أرى، مع كامل حبي واحترامي له ولمنطلقاته، أن موقفه الأول كان الأصوب وأن العاطفة كانت أكثر حضوراً في تراجعه الذي أرى أنه جانب الصواب.

إن مهمة الثائر، سيما المثقف، لا تنتهي عند الميدان بل لعل أهم مساحاتها وواجباتها هي الاشتباك – بمصطلح باسل الأعرج – المعرفي والمنطقي والمحاججة وخوض معارك الإقناع، وتوسيع الأفق مع المخالفين سيما أصحاب المواقف المبدئية وليس خسارتهم  وتقريعهم. الثورة أخلاق كلها ومبادئ كلها وسموٌّ كلها، وعلى هذه الشاكلة ينبغي أن يكون الثائر، وإلا تحول الموقف الأخلاقي إلى استعلاء أخلاقي لا يليق ولا يفيد.

أنظر مثلاً إلى مصر، حيث ما زال هناك فريق يلوم من يثور متأخراً ومن يغضب لجوعه ومن يتحرك لمطالبه ومن كان قد شارك في مظاهرات 30 حزيران/يونيو 2013 ومن قال يوماً كلمة ضد الرئيس المنقلب عليه ومن دعم الانقلاب ثم تراجع سريعاً ومن ندم لاحقاً ومن كان ضد الانقلاب لكن أيضاً ضد الإسلاميين، ويضع كل أولئك في كفة واحدة، فلا هو قادر على القيام بثورة ونصرها لوحده ولا هو يعمل على تجميع الصفوف والجهود قدر الإمكان، وتراه يكتفي بتوصيف الناس وتصنيفهم وإعطاء شهادات الوطنية والأخلاق عليهم، وهذا – مرة أخرى – لا يليق ولا يفيد.

بالعودة للثورة السورية، ثمة أطياف واسعة من اليساريين والقوميين العرب – ومنهم الفلسطينيين – وقفوا إلى جانب الأسد ضد الثورة منذ اللحظة الأولى إما للعلاقة مع النظام أو بسبب كرههم للإسلاميين، لكن في المقابل ليس كل من لديه تحفظات واعتراضات على مسار الثورة وعمل المعارضة أو تكوينها شبيحاً، وهذا فارق مهم جداً. هناك من يقف موقفاً مبدئياً مع حقوق الشعب السوري، لكنه يقف بنفس الطريقة ضد التدخلات الخارجية وضد جزء من المعارضة السورية، وأعتقد أن هذا من حقه ولا يقدم لنا مسوغات تشويهه أو تصنيفه، بل يفرض علينا واجب التواصل ومحاولات الإقناع فضلاً عن الاستفادة من الملحوظات لتسديد المسار وتلافي الأخطاء.

ليس هذا الكلام دفاعاً عن شهيد بات بين يدي ربه ولا يحتاج لكلامنا بحقه ولا لكونه فلسطينياً بطبيعة الحال، ولا دفاعاً عن جمال سليمان الذي لا تجمعني به علاقة من أي نوع، لكنه نصيحة بالانتقال من مربع التوصيف والتصنيف والتقريع إلى مربع العمل والإقناع والكسب ما أمكن، ثم البناء على المشتركات مهما صغرت طالما ثمة اتفاق في المبادئ الكبيرة، سيما في حالة الانكشاف التي نمر بها.

إن الظروف الصعبة التي تمر بها المنطقة وحالة الاستعصاء في كل قضية من قضايا العالم العربي تفرض على أبنائها وأنصارها مستوى أعلى من التفهم والصبر على مواقف الأطراف الأخرى، فالكل واقع في حالة الاضطرار وضيق الخيارات. وقع الكثير من الفلسطينيين في خطأ النظر لكافة القضايا من زاوية القضية الفلسطينية فقط فامتدحوا من يدعمها وإن كان سبباً في سفك دماء شعوب أخرى، وهذه نظرة قاصرة لا يجب أن يقع فيها بعض الإخوة السوريين أيضاً سيما حين يكون الخلاف على جزئيات وتفاصيل في القضية السورية وليس على مبادئها العامة. والسؤال هنا: أي فائدة تجنيها الثورة السورية من شتم بعض شبابها المتحمس لشاب استشهد في مواجهة عسكرية مباشرة مع جند الاحتلال الصهيوني واعتباره “شبيحاً” لمجرد أنه تحفظ على التهجم على حزب الله (على خطورة دوره في سوريا)؟

الشبيح هو من باع ضميره فقتل أو سَجن أو عَذب أو دَعَمَ ظالماً في وجه شعبه أو تنكر للمظالم والحقوق والكرامات المستلبة، وليس من اختلف معنا في موقف سياسي أو تقدير أو تقييم. وواجبنا أن نعري الأولين ونكشفهم لكن أيضاً أن نكسب الآخرين ونوسع معهم أرضية المشتركات. فمهمة الثائر – كما أفهمها – نصرة ثورته بكافة الوسائل المشروعة وفي مقدمتها إثبات مشروعيتها وأحقيتها وتكثير داعميها، وليس تنصيب نفسه قيّوماً على الناس يوزع نياشين الوطنية والثورية على الآخرين المختلفين معه، والله أعلم.

 

الهوامش:

  • سعيد الحاج، انعكاسات الواقع على فهم التاريخ، رصد، 10 أيلول/سبتمبر 2014:

http://www.rassd.com/5-111961.htm

شارك الموضوع :

اترك رداً