سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

جدليات انتخابات حماس في غزة

0

 

 

جدليات انتخابات حماس في غزة

 

المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية

حظيت نتائج الإنتخابات التي أجرتها حركة حماس في قطاع غزة مؤخراً باهتمام إعلامي شديد وتسببت بشيء من الجدل. وإذا كان ذلك الاهتمام طبيعياً بسبب هوية الحركة وحضورها في المشهد الفلسطيني ودورها في المعادلة الإقليمية، فإن حالة الجدل كانت أكبر من المتوقع لسببين مهمين، الأول متعلق بخصوصية هذه الانتخابات التي سيتغير فيها رأس الحركة بعد فترة “استقرار قيادي” فيها منذ فترة طويلة والثاني مرتبط بنتائج الانتخابات في معقل الحركة الأقوى (غزة) على مستوى التركيبة ككل وعلى صعيد قائدها الجديد فيها الأسير المحرر يحيى السنوار.

الآن، وبعد هدوء الضجة الإعلامية التي تلت إعلان النتائج، والتي كان جزء منها عفوياً بينما الآخر مقصوداً ومفتعلاً، قد يكون من المفيد العودة لبعض هذه الجدليات وتناولها بمشرط التحليل في محاولة ثنائية لوضع اليد على الأسباب واستشراف التأثيرات المستقبلية. ولعل أهم هذه الجدليات ما يلي:

 

أولاً، تقدم العسكريين على السياسيين. فقد أوحت القائمة التي انتشرت في الإعلام – في حال صحتها – بسيطرة القيادات العسكرية والقريبين منهم من السياسيين على المكتب السياسي الجديد للحركة في القطاع، سيما في ظل ترؤس السنوار له، وهو تقييم بني عليه الكثير من التحليلات والعديد من النقولات عن الإعلام العبري التي صبت في مسار توقع مواجهة عسكرية قريبة بين القطاع/الحركة والعدو الصهيوني.

ولئن كان جزء من هذا التقييم صحيحاً، إلا أنه يغفل سياقين مهمين جداً:

الأول، أن حركة حماس هي حركة “مقاومة” مسلحة للمحتل الصهيوني في المقام الأول، وبالتالي فالمقاومة هي هويتها وكنهها ومسوغ وجودها، وليست تفصيلاً هامشياً في تركيبتها، وهذا يعني أن الحضور “العسكري” في قيادتها أمر بديهي سيما بعد ثلاث مواجهات عسكرية ضارية مع العدو، وفي ظل عدم مشاركة قيادات سياسية تقليدية في الانتخابات، على رأسها رئيسها السابق اسماعيل هنية بسبب اللوائح الداخلية التي تمنع الترشيح لأكثر من دورتين متتاليتين.

والثاني، خصوصية قطاع غزة في مشروع حماس سيما بعد الانسحاب الصهيوني وبعد ثلاث مواجهات عسكرية أبدعت فيها الذراع العسكرية لحماس/القسام فيها بشكل واضح.

ورغم إقرارنا بهاتين الخصوصيتين وبحصول مبالغات غير مبررة في تقييم النتيجة، إلا أنه تبقى للنتائج دلالاتها الواضحة على توجه “الناخب” الحمساوي في القطاع، وهي دلالة حساسة ولها مزالقها باعتبارها تشير إلى “مفاضلة” ما تمت بين العسكري والسياسي إثر “مقارنة” غير منطقية بين عمل الاول والثاني وإنجازات كل منهما، بينما هما سياقان متوازيان ومتكاملان لا يمكن أن تقوم بينهما مقارنة منطقية أو منهجية.

خطورة هذه الدلالة هو ما سبقها من كتابات ومقالات منذ العدوان الاخير على القطاع لعبت – دون أن تقصد – على وتر هذه المقارنة وقدمت صورة ناصعة البياض للمقاتل/المجاهد الذي ضحى بنفسه وماله (وذلك حق لا نماري فيه) في مقابل السياسي “المفاوض” المناور، أو بين الإنجازات الميدانية والعجز السياسي عن استثمارها في مفاوضات تثبيت وقف إطلاق النار (وهو تناول غير دقيق ويفتقر للمعلومة والموضوعية)، أو بين أهل الخنادق وساكني الفنادق كما أوحى البعض بغير وجه حق.

لا يمكن لك أن تعجب بعمل مهندس ما فتطلب منه – بسبب إتقانه في عمله – أن يجري لك عملية جراحية، لأنه ببساطة مبدع في ميدانه وليس بالضرورة متقناً في كل ميدان. وكذلك “العسكري” الذي أبدع في الميدان العسكري والذي لا يجب توهم أنه سيبدع في أي مجال آخر بالضرورة.

إن شيطنة السياسي والمبالغة في تلميع المقاتل الميداني مسار خطر جداً على مسار حركة تحرر وطني إضافة لإشغال أهل الميدان بالملفات السياسية والحياتية اليومية قد تكون لها انعكاسات خطيرة جداً على المدى البعيد، مع إقرارنا باستحالة الفصل التام بين السياسي والعسكري وبأهمية تمثيل العسكريين في القيادة السياسية، وهو تكامل لا غنى عنه.

 

ثانياً، شخصية السنوار. فالرجل يجمع خصلتين إحداهما خلفيته العسكرية – الأمنية والأخرى قضاؤه 23 سنة متواصلة خلف قضبان السجن جزء مهم منها في سجن انفرادي، الأمر الذي اعتبره البعض نقصاً لا ينبغي توفره في شخص القائد، سيما القائد السياسي.

ولئن كان كاتب هذه السطور يؤيد فكرة أن الخلفية العسكرية – الأمنية البحتة لا تناسب الرقم واحد في القيادة في الإطار العام، إلا أن الأمر تم في النهاية في إطار شوري/ديمقراطي وفق لوائح حماس الانتخابية وفق ما نفهم وبالحد الممكن في ظروف حركة كحماس. وهو أمر ينبغي أن يطرح هذه اللوائح للتقييم، ذلك أن ضرورة تواجد العسكري مع السياسي جنباً لجنب في القيادة ينبغي أن يكون منضبطاً بقواعد تضمن عدم تغول أحدهما على الآخر وفق “كوتة” أو نسبة معينة تحفظ الصفة “السياسية” للقيادة أو المكتب السياسي مع نسبة مهمة من العسكريين تضمن الرؤية الشاملة المتكاملة وسلامة التواصل بين الذراعين العسكري والسياسي في حركة مقاومة مثل حماس.

وأما النظرة السلبية لتاريخ الرجل وطول فترة سجنه – من زاوية المؤهلات القيادية والمواكبة – فكانت صحيحة في عام 2011 حين خرج من السجن، اما الآن وبعد ست سنوات من الخروج والمواكبة والمتابعة والعمل في عدة مسؤوليات فلم يعد لها نفس الأثر والوجاهة في حقيقة الأمر، لكنها نقطة ينبغي التنبه لها والتعامل معها بشكل مؤسسي ولائحي في المستقبل.

ثالثاً، بين الداخل والخارج. وهو تخوف يطرحه البعض بين يدي انتقال القيادة وتبدل الوجوه سيما في حال انتخاب شخصية غزية أخرى لقيادة المكتب السياسي، بما يمكن أن يفرض “عدسة غزية” للنظر لمختلف الملفات والقضايا والتطورات، وهو سياق له محاذيره بطبيعة الحال.

رابعاً، السياسة الخارجية. حيث رأى البعض في النتائج المعلنة انتصاراً لتيار ضد تيار آخر في الحركة فيما يتعلق بعلاقات الحركة الخارجية وعلى وجه التحديد العلاقة مع طهران. وهو تخوف مبالغ به إلى حد بعيد، ليس فقط بسبب مؤسسية القرار الحمساوي كما يفترض، ولكن أيضاً لأن سياق العلاقة مع إيران واضح ومرسوم حتى من قبل العملية الانتخابية، مع الإشارة طبعاً إلى دور القيادة/القيادي في قرار كهذا بما يمكن أن يعزز ذلك الخيار.

إلا أن هناك زاوية تبدو مغفـَلة في هذا الإطار وهو علاقات حماس الأوروبية/الغربية/الدولية، والتي قد تصاب بهزة حين تترأس مكتبها “السياسي” شخصية أمنية وعسكرية مثل السنوار، وهي الحركة التي تحاول منذ سنوات طويلة إقناع الأطراف الأوروبية بانفصال جناحيها السياسي والعسكري عن بعضهما البعض.

في هذا الإطار، ثمة ثلاث نقاط ينبغي أن تأخذ حقها في التقييم والنقاش:

الأولى، التوازن بين بصمة القائد وجماعية القيادة، وهو توازن ضروري ومهم بقدر أهمية أن تـُعطى لكل قائد فرصة تحقيق رؤيته وطريقة تفكيره وترك بصمته التي تثري مسيرة الحركة وتفيد القضية. يجب ألا يغفل المتخوفون من التغول أن قيادة حماس متوزعة بين الأقاليم (غزة والضفة والخارج والسجون) وتحكمها آليات شورية/ديمقراطية في اتخاذ القرار، وعلى المهوّنين من انعكاسات ما حصل ألا يتجاهلوا حقيقة أن حماس حركة مقاومة عربية – شرقية تحمل السلاح وتنتهج المقاومة وبالتالي فشخصية القائد فيها مؤثرة جداً سيما إن كان عسكرياً.

الثانية، خطورة الأخذ من الإعلام الصهيوني دون تمحيص ويقظة، فالمبالغات التي طالت شخص السنوار وتركيبة القيادة الجديدة لحماس في غزة ليست بريئة أبداً. فهي تلعب على وتر التناقضات الداخلية الحمساوية لمحاولة إحداث شرخ، وتعمل على تضخيم أثر السنوار لتبرير استهدافه لا قدر الله، وتبالغ في تقييم التوجهات الحادة للقيادة الجديدة لإيجاد ذرائع لاستهداف القطاع لا سمح الله. ولئن كان التعامل مع الإعلام الصهيوني دون حذر خطيئة كبيرة، فينبغي التنبه إلى أن التحفظ الشديد الذي تبديه حماس ووسائل الإعلام القريبة منها في تناول المشهد وتحليله تدفع إلى الاستفادة من القليل المعروض، وأغلبه صهيوني.

من المتفهم جداً أن حماس حركة مقاومة مستهدفة وأوضاعها بالغة الحساسية، وليست حزباً سياسياً تقليدياً ولن تكون كذلك في يوم من الأيام، إلا أن ما لا يُدرك كله لا يترك جله سيما في عصر الإعلام الجديد والتعطش للمعلومة والتحليل، وبالتالي ينبغي ألا تترك فراغات كبيرة ليسدها الإعلام الصهيوني وأجهزة الاستخبارات التي تحركه من الخلف.

الثالثة، ضرورة حفظ التوازنات في حماس، بين العسكري والسياسي على أساس التكامل والتناغم والتفاهم، وبين الداخل والخارج على أساس شمول القضية في أبعاد الجغرافيا والديمغرافيا والدور والتأثير والاستراتيجيا الكبرى للمقاومة، وبين خصوصية الحركة ومصلحة القضية الفلسطينية على أساس العلاقة بين الجزء والكل والترابط بين الوسيلة والغاية.

وفي كل الأحوال، وبانتظار أن تكمل حماس عمليتها الانتخابية في باقي المناطق لتشكل قيادتها الجديدة العليا ومع صعوبة تحديد تأثير نتائج غزة عليها، فإن هذه الانتخابات التي تجريها حركة حماس تاريخية بكل ما للكلمة من معنى، وأمامها تحديات جسيمة تبدأ بعملية الانتقال للقيادة وتمر بالتحديات الإقليمية والدولية ولا تنتهي بمشاريع تصفية القضية التي تشمل بعض العرب والفلسطينيين.

من هذا المنظور فعلى حماس أن تعي مسؤوليتها الوطنية والتاريخية جيداً وأن تدرك أنها لا تملك رفاهية الأخطاء الكبيرة أو سوء التقدير أو المسارات الخاطئة، وأنه أياً ما كانت تركيبتها القيادية الجديدة فإن أمامها تحديات جساماً ينبغي أن تتصدى لها وفق رؤية واضحة واستراتيجية متكاملة تستثمر كل أوراق القوة وتطورها وتبتعد عن الارتجال والاضطراب والمغامرات.

شارك الموضوع :

اترك رداً