سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

هل التقارب التركي الروسي طويل المدى؟

0

 

هل التقارب التركي الروسي طويل المدى؟

المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية

 

في فترة زمنية لا تتعدى السنة، انتقلت العلاقات التركية – الروسية سريعاً جداً من مسار التقارب إلى شفير المواجهة العسكرية ثم إلى طريق التفاهم في سوريا. ففي محاولة  لإضفاء شيء من التوازن والمرونة على السياسة الخارجية، طورت تركيا العدالة والتنمية في السنوات الأخيرة علاقاتها الاقتصادية مع روسيا بما في ذلك بعض المشاريع الاستراتيجية مثل محطة الطاقة النووية وخطوط الغاز الطبيعي وتقدمت بطلب للانضمام لمنظمة شنغهاي للتعاون وأصبحت “شريكاً للحوار” للمنظمة إضافة لمحاولتها شراء منظومة دفاع صاروخية من الصين.

بيد أن كل هذه الخطوات وغيرها ذهبت أدراج الرياح وعادت تركيا إلى حضن المحور الغربي لسياستها الخارجية مع لحظة إسقاط المقاتلة الروسية في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، وهو الحدث الذي تسبب بشبه قطيعة دبلماسية وحصار اقتصادي روسي لتركيا. لاحقاً، ولأسباب كثيرة من أهمها الاقتصاد، اقتنع الطرفان – أو فضلا الاقتناع –  بمسؤولية الكيان الموازي عن إسقاط الطائرة، وعاد الدفء إلى مسار العلاقات الثنائية قبيل الانقلاب الفاشل في تركيا في تموز/يوليو الفائت والذي كان من أهم عوامل تحريك وتسريع هذا المسار.

ثمة أسباب كثيرة دفعت باتجاه التقارب التركي – الروسي مؤخراً، ربما يكون أهمها أربعة:

الأول، العلاقات الاقتصادية بين البلدين والتي تضررت كثيراً بعد أزمة إسقاط المقاتلة الروسية وخصوصاً قطاع السياحة التركي وصادرات أنقرة الغذائية، إضافة إلى أمن الطاقة التركي سيما الغاز الطبيعي الذي تستورد %55 من حاجتها منه من موسكو، فضلاً عن المشاريع العملاقة سابقة الذكر والتي تقدر ميزايناتها بعشرات مليارات الدولارات.

الثاني، توتر العلاقات التركية – الغربية في كل مستوياتها: مع الولايات المتحدة الأمريكية بسبب دعمها للفصائل الكردية في سوريا وعدم تسليمها فتح الله كولن، والاتحاد الأوروبي بسبب عدم تحرير فيزا شينغن وإبطاء/تجميد ملف العضوية وملف اللاجئين، وحلف الناتو بسبب موقفه السلبي من الانقلاب الفاشل وعدم التزامه بالدفاع عن تركيا في الأزمة السابقة مع روسيا وسحبه لبطاريات صواريخ باتريوت من أراضيها، وغيرها من الأسباب. وقد أعاد هذا التوتر إحياء الرغبة التركية في تعديد محاور سياستها الخارجية وتنويعها وإخراجها من حصرية المحور الغربي.

الثالث، أن روسيا باتت صاحبة الكلمة الأولى في الملف السوري سياسياً وعسكرياً، بعد حضورها العسكري اللافت والسريع وبعد رضى المجتمع الدولي بالدور الروسي في سوريا بل والتعاون معه بما يشبه التفويض.

الرابع، تقدم المشروع الكردي في شمال سوريا بخطوات عملية وميدانية ملموسة، وهو المشروع الذي لطالما اعتبرته أنقرة خطاً أحمر مضراً بأمنها القومي لا يمكنها السماح بتجاوزه.

بمجموع هذه العوامل وغيرها، سيما عدم قدرة تركيا على مواجهة روسيا عسكرياً، تحصلت قناعة لدى صانع القرار في أنقرة بضرورة التواصل والتفاهم مع روسيا في سوريا، ونتج عن ذلك قدرة تركيا على دخول الأراضي السورية في عملية “درع الفرات” بضوء أخضر روسي، ثم اتفاق وقف إطلاق النار وإجلاء المدنيين والعسكريين في حلب، ثم القمة الثلاثية بين روسيا وتركيا وإيران في موسكو قبل أيام.

لكن، هل يعني هذا أن العلاقات التركية – الروسية باتت قوية وراسخة، وأن التفاهمات بينهما طويلة الأمد وتؤسس لتحالف استراتيجي مستقبلاً؟

الحقيقة أنني لا أعتقد ذلك، بل أرى أن عقبات كثيرة ما زالت ماثلة في طريق هذا التقارب وهذه التفاهمات، في مقدمتها:

أولاً، تضارب المصالح والخلافات في الرأي التي ما زالت قائمة رغم التقارب والتفاهم، بدءاً من سوريا التي يضيق مع الوقت هامش الخلاف في الرأي بينهما حول مستقبلها، مروراً بالتنافس على السيادة في البحر الأسود وعضوية تركيا في الناتو، وليس انتهاء بملفات مهمة مثل أتراك القرم وإقليم ناغورنو كرباخ.

ثانياً، تغير الاستراتيجية الروسية يبقى احتمالاً قائماً. فقد استطاعت تركيا تسويق تقاربها وتفاهماتها مع روسيا تحت عنوان وقف إطلاق النار وإبرام حل سياسي، بينما سيكون ذلك صعباً جداً إذا ما اتجهت موسكو إلى إدلب بخطة شبيهة بما حدث في حلب، أي فرض الحل بالقوة المفرطة، وهو سيناريو توحي به خارطة سوريا السياسية والعسكرية وحذر منه الكثير من الساسة والباحثين ومنهم وزير الخارجية الفرنسي في مؤتمر صحافي مع دي ميستورا الأسبوع الفائت.

ثالثاً، لا يمكن الجزم باستمرار التفرد الروسي التام في الملف السوري، لا على المستوى العسكري ولا على الصعيد السياسي. فتغير معطيات الميدان باتجاه استنزاف موسكو (بسيناريو حرب العصابات مثلاً) أو تغير الموقف الدولي من الأزمة قد يعدلان من مستوى هذا التفرد وإن لم يلغياه تماماً.

رابعاً، ما زالت تركيا عضواً في حلف الناتو وعليها التزامات تفرضها عليها هذه العضوية، وبالتالي فإن أي أزمة محتملة بين روسيا والحلف ستفرض على أنقرة اتخاذ موقف محدد، كما أن أي تحسن قد يطرأ على علاقاتها الغربية قد يقلل من مستوى حاجتها لموسكو.

 

في الخلاصة، فإن الحاصل بين تركيا وروسيا ليس تحالفاً استراتيجياً بل تفاهم مرحلي تفرضه الحاجة المتبادلة بين الطرفين. فتركيا تحتاج استمرار رضى روسيا وضماناتها بخصوص قواتها المشاركة في درع الفرات ومنع تبلور المشروع الكردي، وروسيا ما زالت في حاجة للدور التركي في أي حل سياسي للأزمة بل وفي بعض التفاصيل الميدانية كما حصل في حلب. أكثر من ذلك، فحالة السيولة في المنطقة والعالم تعيق تشكل تحالفات متماسكة ومستدامة في الوقت الحاضر، وبالكاد تتيح إمكانية عقد تفاهمات مؤقتة ومرحلية وفق المعطيات الميدانية والسياسية.

وبالتالي، فما هو متوقع للعلاقات التركية – الروسية والتفاهمات الناتجة عنها مؤخراً من وجهة نظرينا أن تستمر على المدى القصير وربما المتوسط طالما بقيت هذه الحاجة المتبادلة والظروف الموضوعية والذاتية التي أدت لها. أما في حال انتفت هذه الحاجة أو تراجعت على الأقل من قبل أي من الطرفين أو كليهما، فإنه من المستبعد أن تبقى على حالها أو تتطور إلى ما يمكن تسميته بمحور أو تحالف بين موسكو وأنقرة، وحينئذ ستعود الملفات الخلافية وتضارب المصالح ليفرضا نفسيهما على العلاقات الثنائية.

بيد أننا لا نتوقع عودة التوتر والمواجهة بين الطرفين كما حصل مع أزمة إسقاط المقاتلة العام الفائت، بل الأرجح أن تعود سياسة تركيا الخارجية لشيء من التوازن النسبي ومد الجسور مع الجميع، وهي سياسة تبدو قدراً لن تستطيع الفكاك منه بسهولة أو سرعة بسبب موقعها الوسطي وكونها منطقة عبور وجذب للاستثمارات الخارجية، كما بسبب التركة الثقيلة لعشرات السنين من سياسة خارجية مبنية بالأساس على العلاقة العضوية مع الغرب.

شارك الموضوع :

اترك رداً