سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

التجربة التركية في الإصلاح الديمقراطي – الأسباب والدروس

0

مؤتمر: منتدى كوالالمبور للفكر والحضارة

مقدمة

لا شك أن تركيا قدمت خلال السنوات ال ـ15 الأخيرة نموذجاً متميزاً في المنطقة، انتقلت معه خلال هذه الفترة الوجيزة من مصاف دول العالم الثالث إلى أن تكون قوة إقليمية ولاعبة مهمة على الساحة الدولية، رغم الكثير من المعيقات وفي مقدمتها الإقليم اللاهب والمزدحم بالأزمات حولها.

هذه التجربة، التي نطلق عليها اسم “التجربة التركية” من باب إطلاق اسم الجزء على الكل، هي – من باب الإنصاف والدقة العلمية – تجربة حزب العدالة والتنمية في قيادة تركيا، والتي لها الكثير من عوامل الشبه لكن أيضاً بعض الفروقات مع التجارب التركية السابقة مع مندريس وأوزال وأربكان وغيرهم.

عوامل التميز في هذه التجربة الفتية التي ما تزال في بداياتها وتعد بالمزيد كثيرة ومتعددة، أهمها التنمية الاقتصادية والإصلاح الديمقراطي والانفتاح في السياسة الخارجية، بيد أننا سنركز على الملمح الثاني – الإصلاح الديمقراطي – خدمة لعنوان المؤتمر ومحدودية الوقت والمساحة المتاحة.

 

تركيا ما قبل العدالة والتنمية

إن جوانب مهمة من حقائق وتجليات التجربة التركية الحديثة – كما اتفقنا على تسميتها – لا يمكن فهمها وتحليلها والاستفادة منها دون سبر سريع لأغوار تطورها عبر التاريخ التركي الحديث. بمعنى أن الحاضر التركي لا يُفهم إلا وفق سيرورته التاريخية وظروفه الموضوعية، ومن أهمها الظروف التي كانت تقاسيها تركيا قبل العدالة والتنمية.

فتركيا هي وريثة الدولة العثمانية التي بدأت محاولات الإصلاح الديمقراطي في بدايات القرن التاسع عشر مع عهد التنظيمات والإصلاحات الدستورية التي سميت “المشروطية”. كما أن تأسيس الجمهورية إثر حرب الاستقلال أعطى الجيش موقعاً متميزاً في حياتها السياسية جعله “حارس مبادئها” والأمين على مصالحها، وهو ما أنتج أربعة انقلابات عسكرية كان آخرها الانقلاب الأبيض أو “ما بعد حداثي” عام 1997 على حكومة الراحل نجم الدين أربكان.

هذه الانقلابات العسكرية، وخصوصاً الأخير، أنتجت حكومات ضعيفة وائتلافات حكومية هشة أوصلت البلاد إلى حالة استعصاء وانسداد سياسي تمخضت عنه أزمات اقتصادية أوصلت تركيا إلى حافة الإفلاس والاقتراض من صندوق النقد الدولي الذي فرض اشتراطاته عليها.

 

مع العدالة والتنمية

تأسس حزب العدالة والتنمية في 14 آب/أغسطس من عام 2001، ودخل الانتخابات في 3 تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2002 وحصل فيها على الأغلبية النسبية في مقاعد البرلمان مما أهله لتشكيل الحكومة منفرداً، وما زال حتى اليوم.

وقد ورث الحزب تركيا التي وصفناها قبل قليل: انسداد سياسي وأزمات إقتصادية وإفلاس وارتهان للمؤسسات النقدية الدولية – فضلاً عن الدول – إضافة إلى التمزق الاجتماعي والحريات المفقودة والمشاكل المزمنة: المحافظون والأقليات (الأكراد والعلويون وغيرهم).

وقد بنى الحزب رؤيته بشكل شبه كامل على نظريات البروفيسور أحمد داود أوغلو – رئيس الوزراء الحالي – التي سطرها في كتابه الألمعي “العمق الاستراتيجي” عام 2001 أي قبل تأسيس العدالة والتنمية، والتي تحدثت عن أهمية إعادة اكتشاف تركيا لمكانها ومكانتها وإمكاناتها في فترة ما بعد الحرب الباردة لتصبح “دولة مركز”، وهي نظريات وأطروحات لم تكن مقتصرة على السياسة الخارجية كما قد يُظن، بل تشمل فلسفة ورؤية العدالة والتنمية لدور تركيا بشكل شامل ومتكامل.

لقد شخص الحزب الحاكم مشاكل البلاد بشكل دقيق ولم يدخل الانتخابات إلا وهو يملك تصوراً مبدئياً لحل هذه المشكلات، التي رأى أن أهمها هو ثلاثي: الهوية والاقتصاد والحريات، رافعاً شعار محاربة ثلاثي الفقر والفساد والمحظورات.

 

الرؤية ومنهجية العمل

بنى الحزب رؤيته للبلاد على هذه التشخيص، واعتمد في طريقة عمله على أسس راسخة ومؤثرة، أهمها:

1- ترابط مشاكل تركيا بشكل عضوي، فلا يمكن تحقيق اقتصاد قوي في ظل هوية مشوشة، ولا يمكن القيام بإصلاحات ديمقراطية قبل التنمية الاقتصادية وهكذا.

2- الخطاب الجامع وتحييد الخصوم، فقد كانت تجارب أحزاب الراحل أربكان التي كانت تحظر وتغلق واحداً في إثر الآخر ماثلة أمام أعين قيادة تركيا الجديدة، فسعوا إلى طمأنة الأطراف الداخلية (المؤسسة العسكرية) والخارجية (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) الفاعلة وعدم الصدام معها، وقدموا الحزب على أنه حزب ديمقراطي محافظ يخاطب الكل التركي ويعبر عنه.

3- التدرج في العمل والبعد عن الشعارات الحادة – مع وجود رؤية بعيدة المدى – بحيث تحل المشاكل الاقتصادية الحادة أولاً، بما يؤدي إلى رضى الشعب وبناء حاضنة جماهيرية، يمكن الاعتماد عليها في الإصلاحات الديمقراطية والملفات الشائكة لاحقاً.

4- تمتين الجبهة الداخلية عبر إشاعة جو من الحريات وتصحيح أخطاء الماضي في حقوق الأقليات – الأكراد تحديداً – واعتبار ذلك ملفاً استراتيجياً وحساساً لا يمكن لتركيا النهضة من دون فك شفراته.

5- أهمية تفكيك “نظم الوصاية” في البلاد، العسكرية والإعلامية والدولة العميقة ..الخ، من خلال الاستعانة بالحاضنة الشعبية الداخلية والاحتماء بشروط الانضمام للاتحاد الأوروبي وما تتضمنه من إصلاحات ديمقراطية وتقليم لأظافر هذه الوصايات، سيما المؤسسة العسكرية.

6- اختيار النموذج الأنسب لتركيا بعد الإطلاع على تجارب الآخرين، وتجدر الإشارة هنا إلى حركة الترجمة النشطة التي شهدتها تركيا واستفاد منها شباب الحركات الإسلامية في سبعينات القرن الماضي، مما أفادهم إطلاعاً جيداً على التجارب المختلفة على طول رقعة العالمين العربي والإسلامي، بيد أنهم خطوا طريقهم ضمن خصوصية بلادهم وفي إطار ثلاثية الزمان والمكان والظروف الخاصة بهم.

 

الإصلاحات الديمقراطية

رأى العدالة والتنمية أن مشكلة تركيا الرئيسة هي غياب الحريات والديمقراطية، وأن الأزمات الاقتصادية والاضطرابات السياسية ما هي إلا انعكاس لأزمة النظام/الحكم التي منشؤها الرئيس انخفاض سقف الحريات والديمقراطية غير الراسخة، فضلاً عن تمزق النسيج الاجتماعي وضعف الجبهة الداخلية بما يفتح الباب واسعاً أمام التدخلات الخارجية ويعمّق من أزمات البلاد.

وبناءً على هذه الرؤية، فقد كانت مسيرة التطور الديمقراطي أولوية لدى الحزب الحاكم، لكنها أولوية مؤجلة وغير عاجلة، تحتاج للتمهيد لها بمقدمات وأوراق قوة وعوامل مساندة تساعد على إنجاحها، فعمد إلى ما يلي:

1- الروية والتدرج وعدم الاستعجال.

2- تحييد الخصوم وتجنب الصدامات المباشرة والمبكرة.

3- البدء بالإصلاحات الاقتصادية التي تمس حياة المواطن اليومية.

4- الموازنة بين الموجود والمنشود، بمعنى مراكمة أوراق القوة (التنمية الاقتصادية وتخفيف الدين الخارجي وبناء الحاضنة الشعبية المساندة) والعمل في مسيرة الإصلاح الديمقراطي على التوازي معها، فكلما قويت شوكة الحكومة – استقراراً وشعبية – كلما كانت أقدر على تنفيذ برامجها الإصلاحية.

5- التمترس بمطالب الاتحاد الأوروبي الخاصة بالحياة السياسية ومدنيتها وتخفيف سطوة المؤسسة العسكرية عليها، بحيث يكون قالب الإصلاحات هو اشتراطات الانضمام للاتحاد الأوروبي – المشروع الذي اعتبره الحزب استراتيجياً ومهماً لتركيا – وليس مواجهة المؤسسة العسكرية أو الانتقاص منها.

6- القيام بالإصلاحات الديمقراطية على شكل حزم متقطعة متباعدة زمنياً لتخفيف حدة الصدمة واستعداء الأطراف المختلفة، وأيضاً ليبني بعضها على بعض بعد أن يكون قد أخذ حظه من التطبيق العملي.

7- التناغم مع الشعب وطرح المشاريع للنقاش في الفضاء العام بشكل مسبق، بحيث تصبح قضايا رأي عام، فتظهر الحكومة في مقام المستجيب للإرادة الشعبية وليس من يفرض رؤيته على الدولة والمجتمع.

ويمكننا في هذا الإطار تناول ثلاثة نماذج أساسية ومهمة في فهم التجربة التركية في الإصلاح الديمقراطي في عهد العدالة والتنمية، كالتالي:

أولاً: الوصاية العسكرية:

سبق وأن ذكرنا أن نفوذ المؤسسة العسكرية الطاغي في الحياة السياسية التركية له عدة أسباب، أهمها تأسيس الجمهورية بعد حرب استقلال مع عدة دول، وكون أوائل الرؤساء – وخاصة مصطفى كمال – عسكريين مع تضخيم واضح لدورهم، فضلاً عن التاريخ التركي العسكري الضارب في القدم، والصورة النمطية الإيجابية للجيش بين أبناء الشعب على مدى عشرات السنين، إضافة للصلاحيات الكثيرة المعطاة دستورياً له.

فبموجب المادة 35 من الدستور، كان من مهام المؤسسة العسكرية “الحفاظ على مبادئ الجمهورية التركية” وحماية الدولة “من المهددات الداخلية والخارجية”، بينما جرى العرف أن تمارس المؤسسة العسكرية صلاحياتها – وأكثر منها – من خلال مجلس الأمن القومي الذي كان أغلب أعضائه من العسكريين وكانت قراراته أشبه بتعليمات واجبة التنفيذ للحكومة.

وبموجب هذه الصلاحيات والدستور والتقاليد المتبعة في البلاد، فقد قام الجيش التركي بأربع “تدخلات” في الحياة السياسية، اثنين منها على شكل انقلاب عسكري دموي (1960 و 1980)، واثنين على شكل ضغوط على الحكومة لتستقيل (1971 و1997). وقد كان الانقلاب الأخير على رئيس الوزراء أربكان عام 1997 بتقديم مذكرة تضمنت مطالب المؤسسة العسكرية والتهديد – في حال رفض – بشكل غير مباشر بالانقلاب عليه، ففضل الأخير الاستقالة.

ومشياً على منهج التدرج وتجنب الصدام، فلم ترد تصريحات قوية من القيادات السياسية للعدالة والتنمية ضد العسكر في تركيا إلا عام 2007 تحت ظلال أزمة ترشح عبدالله غل للرئاسة، ونشر “مذكرة الكترونية” على موقع المؤسسة العسكرية اعتبرها البعض إنذاراً بانقلاب وشيك شبيه بما حصل مع أربكان، وحينها صدرت عدة تصريحات تطلب من الجيش – بلهجة شبه حادة – أن “يهتم بعمله” ويترك السياسة لأهلها.

ويبدو أن تخطي العدالة والتنمية لتلك الأزمة وفشل القضية التي طالبت بحظره في حينها (بفارق صوت واحد في المحكمة الدستورية) قد شجعاه على المضي قدماً في تقليم أظافر العسكر ورفع يدهم عن السلطة السياسية، فكانت الخطوة التالية في تأكيد “استشارية” قرارت مجلس الأمن القومي وعدم إلزامها للحكومة، بعد أن أصبح معظم أعضائه من المدنيين.

لاحقاً، تم تعديل المادة 35 من الدستور عام 2013 لتقتصر صلاحيات الجيش على حماية “حدود البلاد من الأخطار الخارجية”، وكان قد سبق كل ذلك القضايا التي رفعت على المجموعة التي قامت بانقلاب عام 1980، والقيادات العسكرية التي فرضت استقالة أربكان عام 1997، فضلاً عن قضيتي “أرغنكون” و”المطرقة” اللتين حاكمتا قيادات عسكرية بارزة بتهمة “التخطيط للانقلاب على الحكومة المنتخبة”.

هذه القضايا وغيرها، إضافة لإنجازات الحكومة المتتالية في مختلف المجالات، أدت إلى إزالة هالة القداسة عن المؤسسة العسكرية، ولأول مرة في استفتاء شعبي قالت غالبية الأتراك إن المؤسسة الأكثر مصداقية في البلاد هي الحكومة وليس الجيش. ويمكن هنا إضافة الموقف الصلب لاردوغان من الانقلاب في مصر، وتركيزه على أضرار الانقلابات العسكرية على البلاد، في معرض التحذير غير المباشر من عودة الانقلابات وتوعية الشعب بأخطارها.

 

الحريات .. الحجاب نموذجاً

لا شك أن قضية حظر الحجاب التي أعيد ترسيخها بعد انقلاب 1997 على أربكان قد أحدثت أزمة كبيرة جداً، خاصة على مستوى المؤسسة التعليمية، حيث كانت الفتيات بين خيارين: خلع الحجاب لتحصيل العلم أو التخلي عن العلم للتمسك بالحجاب، وكان هناك أعداد منهن – من استطعن مادياً ومعنوياً – قد سافرن للخارج لإكمال تعليمهن.

هذه القضية الحساسة كانت عامل ضغط كبير جداً على حزب أتت قيادات الصف الأول فيه من جذور الحركة الإسلامية، لأبعادها الدينية ولحساسيتها الاجتماعية ولأحقيتها القانونية وارتباطها بمبدأ الحريات الشخصية ولتهديدها العملية التعليمية ومستقبل البلاد. بيد أن اردوغان استبق أي مطالب للشعب في هذا الاتجاه قائلاً إن الحجاب “ليس أولوية من أولويات الحكومة” التي ستعالج الأزمة الاقتصادية أولاً. وعلى مدى الفترة البرلمانية الأولى بكاملها (2002 – 2007)، لم يتطرق الحزب للأمر من أي زاوية.

في الفترة البرلمانية الثانية للحزب (2007 – 2011)، طرح الأخير الأمر للنقاش المجتمعي وفي جزئية طالبات الجامعة فقط من باب عدم حرمانهن من حقهن في التعليم، وأكد أنه لن يقدم على أي خطوة إلا بتوافق سياسي مع الأحزاب الأخرى.

في انتخابات 2011، رشح الحزب سيدة محجبة في دائرة انتخابية مستحيلة الفوز على الحزب (مقابل زعيم المعارضة دنيز بايقال في مسقط رأسه)، بحيث كان الترشيح رمزياً، أكد أحقية الترشيح بينما لم يفتعل أزمة بسبب عدم الفوز أصلاً.

لاحقاً، وبدعم من حزب الحركة القومية، أقِر السماح بالحجاب في الجامعات، ضمن قرارات أخرى لإصلاح النظام التعليمي برمته. ثم سُمح عام 2013 بالحجاب في مؤسسات الدولة كافة باستثناء القضاء والشرطة والجيش (أي بما يشمل عضوية البرلمان)، وترك الأمر لقيادات هذه المؤسسات في حينها. اللافت أن هذا السماح أتى ضمن حزمة الإصلاحات الديمقراطية التي أعلنها اردوغان في 30 أيلول/سبتمبر 2013، والتي سبقت عيد الأضحى بأيام فقط، مما أتاح لأربع من نواب الحزب من السيدات أن يعدن من فريضة الحج بحجابهن (لم يكن محجبات قبلها) ودخولهن البرلمان به دون أي صدام مع المعارضة التي دعم بعضها (الحركة القومية) الخطوة بعد أن كان شارك في طرد النائبة المحجبة مروة قاوقجي عام 1999 من البرلمان – لتنزع منها جنسيتها لاحقاً – فيما لم تستطع الأحزاب الاخرى مقاومة أمر أصبح مطلباً شعبياً طاغياً.

لاحقاً، وفي حزيران/يونيو 2015، سمحت الهيئة العليا للقضاة والمدعين العامين في تركيا لمنتسبيها من النساء بلبس الحجاب أثناء العمل، وما زال الحظر جارياً في مؤسستي الشرطة والجيش بانتظار خطوات مستقبلية.

 

القضية الكردية

لا يختلف اثنان على مظلومية الشعب الكردي، ليس فقط على قاعدة عدم تأسيسه دولة قومية أسوة بغيره من الشعوب بعد الحرب العالمية الأولى – فثمة نقاش طويل قد يدور بهذا الخصوص – ولكن على قاعدة حرمانه من حقوقه وإهماله على عشرات السنين في دول المنطقة التي يتوزع بها، العراق وسوريا وإيران وتركيا.

ففي تركيا، تم تجاهل القومية الكردية وحرم أبناؤها من التحدث بلغتهم الأم أو تعليمها أو الكتابة والنشر بها، فضلاً عن حقوق سياسية وثقافية أخرى، أضيفت إلى حرمان مناطق تواجدهم الكثيف – جنوب وجنوب شرقي البلاد – من التنمية بشكل متساو مع المناطق الأخرى.

قبل العدالة والتنمية، حاول أربكان إنهاء النزاع المسلح الذي يخوضه حزب العمال الكردستاني منذ 1984 ضد الدولة التركية لكن الانقلاب لم يمهله، ثم حاول تورغوت أوزال في تسعينات القرن الماضي لكن المنية وافته، وبقي الحال على ما هو عليه بانتظار العدالة والتنمية.

وتقوم مقاربة العدالة والتنمية في حل القضية الكردية على عدة أسس، أهمها:

1- نهضة تركيا تعتمد بشكل كبير على حل المشكلة الكردية التي تستنزف ثرواتها ومواردها وأبناءها (40 ألف قتيل و500 مليار دولار وفق التقديرات)، وتفتح باب التدخلات الخارجية (الولايات المتحدة وألمانيا وإيران و”إسرائيل”)، وهو ما يمكن تسميته بنظرية “تصفير مشاكل الداخل”.

2- الاعتراف بمظلومية الأكراد في تركيا والمنطقة.

3- اعتبار المشكلة الكردية شأناً تركياً داخلياً، بين دولة وبعض مواطنيها، ولذلك فالحكومة التركية تستعمل مصطلح “الحل” أو “التسوية” وليس “السلام” لوصف العملية السياسية الجارية.

4- حل القضية الكردية سياسياً ضمن استراتيجية متكاملة، وعدم الاكتفاء بالرؤية الأمنية – العسكرية.

5- العملية السياسية تشترط إلقاء الحزب سلاحه، في مقابل تعهد الدولة بإقرار الحقوق السياسية والاجتماعية والثقافية للأكراد على أساس المواطنة الكاملة والمتساوية.

6- ينبغي للحل أن يكون متدرجاً لتجاوز الأزمات المزمنة والعراقيل الكثيرة.

 

وقد عمل الحزب الحاكم فعلاً على خطوات بسيطة ومتدرجة في مجال الحقوق الثقافية والاجتماعية للأكراد، سابقة على المفاوضات السياسية، ثم استمر بها وبنى عليها بعد بدء المحادثات، كان أهمها:

  • السماح بتعليم اللغات غير التركية (الكردية تحديداً) عام 2003.
  • افتتاح أقسام لتعليم تلك اللغات في الجامعات التركية.
  • إقرار حق التأليف والنشر باللغة الكردية.
  • افتتاح قناة تلفزيونية رسمية ناطقة باللغة الكردية (TRT 6) عام 2009.
  • السماح بتعليم الكردية كمادة غير إلزامية في المدارس عام 2012.
  • السماح باستخدام اللغة الأم في دفاعات المتهمين أمام القضاء، عام 2013.
  • حزمة الإصلاحات الديمقراطية في سبتمبر/أيلول عام 2013، والتي شملت السماح بفتح مدارس ومعاهد خاصة تدرس بلغات غير التركية (الكردية خاصة)، والدعاية السياسية بلغات ولهجات أخرى، وتغيير أسماء بعض القرى والبلدات لتعود لأسمائها القديمة، وزيادة عقوبات جرائم العنصرية والتمييز على أساس اللغة والعرق والقومية، وصولا إلى تغيير “القسَم الطلابي” الذي كان يتلى صباحا في كل المدارس التركية لأنه يشير إلى الطالب “التركي” حصراً.
  • اتباع سياسة تنمية جنوب شرق البلاد ذي الأغلبية الكردية، من خلال عشرات المشاريع الاقتصادية والتنموية، من طرق ومستشفيات ومطارات وجامعات ومرافق سياحية.
  • إقرار قانون “إنهاء الإرهاب وتمتين الوحدة المجتمعية”، الذي يفوض الحكومة باتخاذ الإجراءات الضرورية للعملية السياسية، ويخلي المسؤولية الجنائية للمشاركين فيها، ويسمح بعودة من يلقي السلاح لبيته ويضمن مشاركته في الحياة المجتمعية.

 

وقد بدأت الدولة مفاوضات مع حزب العمال الكردستاني، عبر قناة زعيمه المعتقل لديها عبدالله أوجلان، الذي دعا في ندائه الشهير في آذار/مارس 2013 عناصر الحزب لإلقاء السلاح ومغادرة الأراضي التركية، فغادر المئات ثم تبدلت الظروف لاحقاً وتوقف المشروع. ورغم نداء أوجلان المكرر بعد ذلك بعامين (آذار/مارس 2015) ووثيقة المبادئ العشرة التي أعلنتها الحكومة مع وفد الوساطة الذي شكله حزب الشعوب الديمقراطي، إلا أن عملية السلام شهدت منذ أشهر توقفاً وجموداً كبيرين، واستأنف حزب العمال الكردستاني عملياته العسكرية، وهو ما دفع الرئيس اردوغان للقول إن “عملية السلام الآن في الثلاجة”، بينما أعلن أكثر من مسؤول حكومي أن خروجها منها مرهون بتحقيق الأمن والسلم في البلاد وإلقاء الحزب لسلاحه.

كل ذلك، مع ما تخلله من اختراقات خارجية لحزب العمال الكردستاني وانعكاسات الأزمة السورية وأحداث الإقليم بشكل واضح على عملية التسوية، لا يعني أن الأخيرة قد توقفت إلى غير عودة ولا أن العدالة والتنمية قد غير رؤيته أو استراتيجيته، بل ربما يعني فقط أن العملية بانتظار نضوج الظروف المثالية لإعادة إطلاقها مجدداً بأسماء وشروط ولاعبين مختلفين هذه المرة.

 

أسباب النجاح وإمكانات الاستفادة

إن السبب الأهم للاهتمام بالتجربة التركية هو مدى نجاحها في نقل تركيا تلك النقلات المهمة في الاقتصاد والسياسة الخارجية وغيرها من المجالات، وهو ما استثار الأسئلة الكثيرة حولها، وأهمها سؤال الاستفادة.

وليس ثمة الكثير من التحفظات على هذا السؤال، باعتباره بديهة متوقعة ضمن معادلة تقدم دولة في إقليم متراجع، لولا أنه يُطرح في غير بيئته السليمة للطرح. بمعنى، أن سؤال الاستفادة من التجربة التركية طرح مراراً على قاعدة “الاقتباس” أو حتى “الاستنساخ” وليس على قاعدة “الاستفادة الجزئية” أو “النهج العام” للتجربة، اعتماداً على السياقات المشتركة بين تركيا ودول المنطقة وغيرها من دول العالمين العربي والإسلامي، وهي سياقات مشتركة بعضها أصيل وصحيح وبعضها الآخر متخيَّل متوهَّم.

إن أهم أسباب نجاح وتفرد التجربة التركية أنها نبتت في بيئتها المناسبة، أي في تركيا، تركيا الزمان والمكان والظروف، ولو كانت في أي بلد آخر لانصبغت بمميزاته الخاصة به، تماماً كما لا تنبت الشجرة وتثمر إلا في إقليمها المناسب لثمارها.

وعليه فينبغي علينا أن نهتم بالاختلافات الكثيرة الموجودة بين تركيا وعالمنا العربي – خصوصاً – أكثر من اهتمامنا بالمشتركات الصحيحة والمتوهمة كما ذكرت، حتى نخط مساقات الاستفادة وحدود التوقف. إن براعة قيادات العدالة والتنمية تبدت في دراستهم لمشكلات بلادهم وتقديم الإجابات لهذه المشكلات ضمن ثلاثي تركيا الزماني – المكاني – الظرفي كما أسلفنا، وهو ما يغيب عن تجارب العالم العربي – الإسلامي في غالبيته.

– فمن ملامح الافتراق أن التجربة التركية تجربة ديمقراطية – إصلاحية، بينما يعيش العالم العربي اليوم موجة ثورات وثورات مضادة، وهما سياقات متباعدان تماماً، إن لم نقل متناقضين.

– ومن ملامحه أيضاً تلك الخلفية التاريخية للتجربة الديمقراطية التركية التي تمتد للعهد العثماني، واعتماد العملية السياسية فيها على مؤسسات راسخة، رغم تفاوت أدائها.

– ومنها كذلك دور المؤسسة العسكرية الذي كان يقتصر على “حماية مبادئ الجمهورية” ثم عودتها بعد كل انقلاب إلى ثكناتها لتفسخ الطريق للاعبين سياسيين جدد، دون محاولة تأميم الحياة السياسية لصالحها، خصوصاً في ظل عدم انغماسها تماماً في الحياة الاقتصادية كما في بعض البلدان الأخرى.

– ومنها تمتع تركيا بديمقراطية نسبية تمثلت في نزاهة الانتخابات وغياب التزوير السافر حتى بعد الانقلابات، وهي حالة جعلت طريق النضال السياسي مجدياً ومؤمِّلاً، بحيث اقتصرت جهود الإسلاميين والمحافظين على الاستمرار في محاولات التواجد والعمل وفهم ديناميكيات وتعقيدات السياسة في البلاد، حتى أتقنوا اللعب على حبالها وتجنبوا – حتى الآن – مزالقها الوعرة.

– ومنها تجربة الحركة الإسلامية – إن جازت التسمية – نفسها في تركيا وخبراتها ورؤاها المختلفة بشكل جذري عن رؤى حركات الإسلام السياسي – مع التحفظ على التسمية – في العالم العربي، وخاصة فيما يتعلق بفهم طبيعة الدولة ووظائفها وكيفية إدارتها.

– موقع تركيا الجغرافي وعلاقاتها السياسية المتشعبة تاريخياً وإمكاناتها البشرية والاقتصادية ومواردها، بما يعطيها أهمية جيوبوليتيكية مختلفة، وينعكس بشكل واضح على أدوارها وسياساتها وتأثيرها، وبالتالي على مسيرتها التنموية.

ورغم ذلك، فلسنا في غنى عن الاستفادة من التجارب الناجحة، وفي مقدمتها التركية، لقربها الجغرافي منا وروابطها الدينية والثقافية والتاريخية معنا، ولانفتاحها على المحيط والعالم. بيد أنني أرى أن الاستفادة تكمن في النهج والعناوين العريضة وليس في التفاصيل أو الإجراءات التي يجب أن تخضع لخصوصية كل بلد على حدة. وهنا يمكن ذكر ما يلي:

1- التجربة المناسبة للبلد والشعب، في تناغم مع تاريخه وثقافته وخبراته السياسية، وفق منظومة الزمان والمكان والظروف.

2- رؤية بعيدة المدى، متناغمة مع هوية الشعب ومستمدة من إمكاناته.

3- تحديد أهم المشاكل التي يعاني منها كل بلد، ووضع تصورات وخطط لحلها وفق الأولويات والإمكانات.

4- العمل على استنفار الشعب ككل في عملية النهضة التي لا يمكن لها أن تنجح إن قامت على أفراد أو نخب فقط.

5- التدرج ومراكمة النجاحات ضمن الخطة الموضوعة، والمراجعات والتصويبات المستمرة.

6- الاهتمام بالعمل أكثر من الشعارات الرنانة.

7- تبني منهج علمي في دراسة المشاكل وحلها، والاعتماد على الدراسات والإحصاءات.

8- تبني خطاب يستوعب ويحتضن كافة أطياف الشعب وليس فئة واحدة فقط منه.

9- الانفتاح الاقتصادي والثقافي على كل الأطراف، وبناء الجسور مع مختلف البلاد والثقافات.

 

في الخلاصة، سارت تركيا بقيادة العدالة والتنمية منذ 2002 في مسيرة تنموية ملهمة، فحققت نهضة اقتصادية لافتة ودخلت ضمن مصاف الدول الإقليمية الفاعلة على الساحة الدولية ورأينا كيف استضافت قمة مجموعة العشرين الاقتصادية، ولها مواقف مشرفة وقوية في السياسة الخارجية اعتبرها البعض بسببها “القلعة الأخيرة” لشعوب المنطقة التي عانت من تغول الثورة المضادة.

وبديهي أن نقول إن التجربة التركية الحديثة تجربة إنسانية في نهاية المطاف بما يعني عدم عصمتها بل اكتنافها العديد من الأخطاء والمهددات، مثل غياب المشروع الأيديولوجي الجامع على المدى الطويل، والإدارة المركزية الشديدة للرئيس – رئيس الوزراء السابق – اردوغان وخلافات التيارات داخل الحزب الحاكم، فضلاً عن الترهل الإداري وغرور القوة، التي أصابت الحزب وساهمت في تراعجه في انتخابات السابع من حزيران/يونيو الفائت، قبل أن يعيد الحزب حساباته ويقوم بمراجعاته، التي أعطته فرصة أفضل لالتقاط الأنفاس وتصويب التجربة مع انتخابات الأول من تشرين الثاني/نوفمبر الحالي.

ولئن كان استنساخ التجارب وصفة فشل واضحة، إلا أن الاستفادة من الخطوط العريضة لها، وفق منهجها في التخطيط والأداء، يعتبر من الواجب على جميع الأطراف التي تسعى لنهضة وتنمية بلادها وشعوبها، خصوصاً في ملف الحريات والديمقراطية الذي برعت فيها تركيا العدالة والتنمية إلى حد ما (وما زال ينتظر منها فيه الكثير)، والذي لا غنى عنه لأي دولة تسعى للنهضة والتقدم. فدون صف داخلي متماسك لا يمكن لدولة ما أن تقف في وجه التحديات الكبيرة والكثيرة داخلياً وخارجياً، خصوصاً في فترة الأزمات اللاهبة التي نعيشها.

إن الدرس الأبرز للتجربة التركية في سياقها الحالي هو تذليل الصعاب واجتياز المراحل على بصيرة، بعد الفهم العميق للواقع ومشاكله، والتخطيط الجيد للحلول والاستراتيجيات، والعمل الدؤوب، وسد الثغرات الاجتماعية والسياسية في الداخل، فهي التي تشكل أكبر الخطر على مستقبل البلاد والعباد. وما زالت التجربة فتية وما زال أمامها الكثير من المراحل والعوائق والمحطات التي ستساعد على إنضاجها وإكسابها أبعاداً جديدة متجددة.

شارك الموضوع :

اترك رداً