سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

تركيا والاختبار الصعب

0

منذ ما يقرب من ثلاثين عاماً – تحديداً منذ عام 1984 – وحزب العمال الكردستاني  يشن حرباً لا هوادة فيها على تركيا، كانت آخر جولاتها (التي لن تكون الأخيرة للأسف) ثمانية شهداء من الجنود الأتراك سقطوا قبل أيام. دفعت تركيا – وما زالت – ثمن هذه الحرب من اقتصادها وشيء من سمعتها وهيبتها ربما، والأهم من أبنائها (بعض التقديرات الرسمية تتكلم عن 40 ألف قتيل من الجنود والمواطنين، بينما تقول بعض الأوساط أن الرقم قد يصل إلى 70 ألفاً).

ورغم أن الحرب التي يشنها “الكردستاني” مستمرة على طول تلك الفترة، فقد اختلف أسلوبها وحدّتها من وقت لآخر ومن نظام سياسي إلى الذي يليه. ففي الثمانينات وبعض أعوام التسعينات من القرن الماضي انتشرت التفجيرات التي كان يتبناها الحزب في الكثير من المدن التركية الكبيرة مثل اسطنبول وأنقرة، أما حديثاً فتكاد عملياته العسكرية تقتصر على المناطق الحدودية على شكل كمائن للقوات العسكرية والشرطة التركية.

اللافت للنظر بشكل غريب أن الهجمات الإرهابية التي يقوم بها الحزب ترتفع وتيرتها كلما زادت مكاسب الأكراد في تركيا ونعمت البلاد بالاستقرار السياسي. فالمنطق يقول أنه إذا كان هدف تلك الحرب الحصول على الحقوق المدنية والسياسية والثقافية للأكراد في تركيا، فينبغي أن تتناسب هذه الهجمات عكسياً مع التقدم في هذا الملف. إلا أن المتابع يلحظ بسهولة عكس ذلك، الأمر الذي يثير الريبة.

لم يكن الأكراد يوماً في تركيا أقلية، فعددهم حسب بعض التقديرات يصل إلى حوالي عشرين مليوناً (من أصل 75-80 مليوناً)، لكنهم عانوا طويلاً من الظلم والحرمان ونكران حقوقهم الثقافية والاجتماعية، على نحو جعل غالبيتهم تشعر أنها أقلية عرقية و”مواطنون من الدرجة الثانية”.

قامت حكومة العدالة والتنمية بخطوات إصلاحية هامة في هذا الملف رغم المعارضة الداخلية الشديدة، فاعترفت باللغة الكردية لغة ثانية في البلاد، وسمحت بالكتابة والنشر والتعليم بها، وافتتحت قناة رسمية ناطقة باللغة الكردية، كما دعت العديد من المعارضين الأكراد للعودة إلى تركيا (كان آخرهم الشاعر الكردي المعارض كمال بوركاي)، ضمن مشروع شامل أسمته “مشروع الوحدة والأخوّة”. إلا أن هذه الجهود الإصلاحية الجبارة لم تثن الحزب عن خططه وهجماته، إلا ضمن تكتيكات معينة تدخل في إطار الابتزاز والاستثمار، من قبيل الإعلان عن وقف العمليات العسكرية في الفترة القصيرة التي سبقت الانتخابات العامة في البلاد.

يردد الساسة الأتراك (على اختلاف توجهاتهم) كثيراً فكرة “الدعم الخارجي” للعمليات العسكرية الإرهابية التي يقوم بها الانفصاليون، لكن أحداً منهم لا يذكر شخصاً او منظمة او دولة بالاسم، في لمحة من الذكاء السياسي والصبر يغبطان عليهما. لكن المدقق في الأمر لن يصعب عليه التقاط بعض الخطوط والإشارات، مثل الهجوم على القاعدة العسكرية البحرية في لواء الاسكندرون (لأول مرة في تاريخ الهجمات العسكرية) خلال توجه سفينة مرمرة الزرقاء نحو قطاع غزة وقبل ساعات فقط من الهجوم عليها، وارتفاع وتيرة العمليات العسكرية بعد رفض مجلس الأمة التركي التدخل العسكري الأمريكي في العراق من الأراضي التركية عام 2003.

في ظل العلاقة المتوترة بين تركيا والكيان الصهيوني حالياً، وضمن جو الثورات العربية وخاصة في سوريا (مع الدعم الإيراني الواضح للنظام هناك) يصبح – ربما – مفهوماً أن تتكثف العمليات العسكرية في الجنوب الشرقي للدولة الإقليمية الأقوى سياسياً واقتصادياً، إذ ليست جميع الأطراف سعيدة بنمو هذه القوة وتوجهاتها.

في أروقة السياسة والإعلام يكثر الهمس والهمز واللمز حول بعض القيادات العسكرية السابقة لعدم تمكنها من (أو عدم إرادتها) إنهاء الملف بسبب إصرارها على الاكتفاء بالحل العسكري مخرجاً وحيداً للأزمة، وفي ظل كلام عن رؤية تعتبر استمرار العمليات الإرهابية على الأراضي التركية إبرازاً وتضخيماً لدور الجيش وتكثيراً لصفقات شراء السلاح.

مؤخراً وبعد تغيير قيادات القوات المسلحة التركية وإخضاع المؤسسة العسكرية للقيادة السياسية ووزارة الدفاع، تتكلم الحكومة التركية بصوت أعلى وثقة أكبر عن خطة جديدة لمحاربة الإرهاب والحد منه (ضمن قناعة أن القضاء عليه نهائياً متعذر)، تتضمن عناوين عديدة منها إرسال قوات خاصة تدريباً وتسليحاً إلى الحدود وزيادة عدد الوحدات العسكرية هناك، وتغيير الرؤية والنهج المتبع في المواجهة، والحرب الإعلامية الموجهة نحو نوايا حزب العمال البعيدة عن مصالح الأكراد، إضافة إلى الإصرار على الانفتاح السياسي والإصلاحات القانونية.

في ظل المتغيرات الكثيرة والكبيرة إقليمياً ودولياً، والقوة الاقتصادية والسياسية التركية الساعية بقوة لموطئ قدم مريح لها في الساحة الدولية، يبقى المشهد مفتوحاً على احتمالات كثيرة في لعبة عض الأصابع المتبعة حالياً، وتبقى الحكومة التركية أشبه ببهلوان يسير على خيط رفيع محاولاً المحافظة على توازنه، إلا أن الجمهور هنا لا يتابع من أجل المتعة والتصفيق فقط.

شارك الموضوع :

اترك رداً