سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

حوار ينقصه الدم

0
  • أمل !!  أمل  !! علت نداءات الوالد من الغرفة المجاورة.

 

كما دائماً، كانت “أمل” مشدودة كلياً لشاشة المرنان، غير آبهة بأي شيء يجري حولها، ودون أن تكلف نفسها عناء الرد على نداءات والدها.

دخل والدها الغرفة ليؤنبها على إساءتها الأدب معه، لكنه فوجئ أن السبب هذه المرة في تصرف طفلته كان مختلفاً. فما ثبتها أمام شاشة المرنان لم يكن رسوماً متحركة للأطفال أو أغنية “شبابية” لا ينبغي لها أن تشاهدها، بل كان منظر طفلة مضرجة بالدماء في نشرة الأخبار.

تسمّر الأب واقفاً كما ابنته، وخيّم صمت عميق على الاثنين ..  لم ينطق الأب، ولم تتكلم البنت. بعد دقائق معدودة كسرت “أمل” الوجوم وتوجهت لوالدها بالسؤال:

-أليست هذه إيمان حجو يا والدي؟؟

-لا يا حبيبتي، إيمان حجو استشهدت منذ سنوات، وكانت طفلة رضيعة، هذه ليست هي.

استغربت الطفلة ذات السنوات الثماني من عدم قدرة والدها –الفنان المعروف- على فهم مرادها، وكأنها اضطرت لتفصيل ما أرادت:

-أعرف أنها ليست هي، ولكنها طفلة أيضاً، وقتلت دون ذنب .. إيمان حجو ليست طفلة واحدة، بل تمثل كل الأطفال الذين قتلوا دون ذنب.. أليس هذا ما قلته لي يوم سجلت لها أغنيتك الشهيرة ؟؟؟

وقع كلام الطفلة كالصاعقة على الأب، حيث لم يكن يتوقع أن تكون ابنته نضجت بهذه الدرجة وبهذه السرعة… فعاد إلى صمته ووجومه دون أن يرد عليها أو يعلّق على ما قالت.

لم يكن إنكار “الوالد الفنان” وحده ما أدهش وحيّر الطفلة الصغيرة، فصمته إزاء الخبر وفظيع الصور كان أمراً لم تتعود عليه. فمذ عرفت والدها –الفنان الكبير والمشهور بوقوفه وراء كل القضايا المحقة بغنائه وفنه- كانت هذه المرة الأولى التي لا يستشيط فيها غضباً لمنظر الدماء، ولا يلهج لسانه بالشتائم والتوعد لمن قتل الطفولة البريئة. وسواء كان صمته غضباً أم دهشةً أم استعداداً لعمل فني يفضح القتلة، فهي لم تستسغ صمته، فبادرته بالسؤال:

-هل ستغني لها أغنية كما فعلت لإيمان حجو؟؟

-لا يا حبيبتي… أجلس الأب ابنته في حضنه، وربت على شعرها، وكأنه أرادها ان تقتنع بشيء صعب التصديق.. ليس كل ما ترينه على الشاشة صحيح.. هذه الشابة لم تقتل دون ذنب، بل كانت تحمل السلاح..!!

-شابة؟؟ هذه شابة يا أبي؟؟ صاحت “أمل” وهي تقفز من بين يدي أبيها محتجة على ما قال.. إنها بالكاد تكبرني بعام أو اثنين .. أي سلاح تحمله؟؟ ألم تُرِني السلاح يوماً وأفهمتني أن الكبار ينوؤون بحمله، ولا يستطيع الصغار استعماله؟؟ كيف استطاعت أن تحمله وتستعمله؟؟

وفي حين استغرق الأب في صمته، وغير “المحطة” إلى رسوم متحركة لمحاولة جذب انتباه صغيرته إلى موضوع آخر، كانت الطفلة تكمل عبارتها:

-وهل من يحمل السلاح يقتل ويعذب هكذا؟؟ هل يمكن أن تعاقب طفلة باقتطاع أجزاء من جسمها، أليس هذا المهراق دماً كدماء كل البشر ؟؟ ألم تقل لي دائماً “يجب على الفن المحترم أن يرتفع لمستوى الدماء”؟؟

وهنا كان على الأب أن يتدخل ليفهم ابنته بخبرته الطويلة في الحياة أن لا تستسلم للأخبار وصانعيها، فهم نادراً ما يصدقون.. مفجراً قنبلة من العيار الثقيل:

– لا يا حبيبتي .. ليس كل دم سُفِك بريئاً، وليس كل من قتل على حق.. الحياة أعقد مما تظنين.. انا أيضاً يؤلمني مشهد الدماء، ولكن عندما تكبرين قليلاً ستعرفين أن البشر ليسوا سواء، منهم الأبرياء ومنهم القتلة، ولذلك فهناك فارق كبير بين دم ودم، فالدم هنا ليس كالدم هناك.

تحوّل نظر الصغيرة من خلال النافذة إلى السماء، وكأنها سبحت في بحار كلمات والدها الحكيم، أو كأنها أرادت ان تهرب من واقع لم تر فيها العدل والإنسانية، أو لربما كانت تشكو لربها ضعف حيلتها… لكنها بكل الأحوال كانت مقتنعة بكلام والدها، فهو الذي رباها على حب الوطن، وكره الظلم، وهو الذي طالما تغنى بالمظلومين ودمائهم.. وحين عادت إلى يقظتها، قالت:

-صدقت يا والدي.. ليس كل البشر سواء.. فالبعض منهم ليس “عندهم دم”.

 

 

شارك الموضوع :

اترك رداً