سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

تركيا والتغيرات الإقليمية الأخيرة

0

وصل الحراك السياسي المحموم في المنطقة إلى ذروته بالاتفاق الأخير المبرم في جنيف بين إيران ودول الـ (5+1)، معطياً انطباعاً قوياً بإعادة تشكيل توازنات المنطقة وقواها وفق آلية جديدة، أو على الأقل ارهاصات هذا التشكيل. فما الذي حصل بالضبط، وأين تركيا من كل هذا، تضرراً أو استفادة؟

حتى بدايات الربيع العربي (الثورة السورية تحديداً) كانت تركيا تستثمر وثبتها الاقتصادية وموقعها الاستيراتيجي لتنتقل في سياستها الخارجية من نصر إلى آخر متربعة على عرش منطقة الشرق الأوسط كدولة قائدة ورائدة، في ظل الحصار الاقتصادي على إيران وتقوقع “إسرائيل” على ذاتها تحت وطأة زلزال الربيع العربي والتوجس من مآلاته، حتى إن تركيا استطاعت أن تكون الوسيط بين إيران والغرب (اتفاقية تخصيب اليورانيوم مع البرازيل)، كما نجحت في إرغام نتنياهو على الاعتذار من اردوغان عن جريمة الاعتداء على سفينة مرمرة دون أي مكسب له في المقابل، في سابقة هي ربما الأولى من نوعها.

 

لكن رياح الأزمة السورية عصفت بكثير من ثوابت المنطقة وركائزها السابقة، متبدلة بين مد وجزر في وقت قصير جداً، وبينما كان الحديث يدور عن فقدان الأسد لشرعيته وسط استعدادات لضربة عسكرية لنظامه، أصبح خلال أشهر معدودة شريكاًُ في عملية تسليم الأسلحة الكيميائية وطرفاً على طاولة “جنيف 2”. تطور ليس بالتاكيد معزولاً عن تطور المفاوضات بين إيران والغرب، ونضج المحادثات الأمريكية الروسية حول سوريا، والانقلاب العسكري في مصر.

 

ولئن كانت تركيا قد خسرت سوريا وإيران والعراق بسبب موقفها من الأزمة السورية، لكنها لم تنج أيضاً من غضب/عتب الولايات المتحدة الأمريكية بسبب موقفها المستقل نوعاً ما عنها أو الطامح لذلك، غضب ترجم إلى حملات سياسية – إعلامية ضد الحكومة التركية في عدة ملفات، مثل أحداث حديقة “جزي”، وصفقة الصواريخ الصينية، والحملة على رئيس الاستخبارات التركية حاقان فيدان، وغيرها.

ومع انتخاب روحاني واتجاه إيران الواضح لحل ملفها النووي مع الغرب على قاعدة “الربح للجميع” (win-win) لتخفيف الحصار الاقتصادي عليها، تغير المشهد السياسي في المنطقة خلال أشهر قليلة ما يقرب من 180 درجة، من ترقب توقيت الضربة العسكرية عليها إلى تخفيف العقوبات عنها، ما يوحي بتوافقات أبعد وأعمق تحت الطاولة ووراء الكواليس. حرص الغرب على مصالحه وبراغماتية النظام الإيراني المعروفة تجعل “تطبيع” العلاقات مع الغرب أمراً غير مستهجن ولا مستبعد أبداً في ظل إعطاء إيران دوراً أكبر في العملية السياسية لحل القضية السورية.

 

قد يبدو لأول وهلة أن الولايات المتحدة تريد معاقبة تركيا على تغريدها خارج السرب، من خلال إعادة إيران تدريجياً إلى دورها السابق كشرطي للمنطقة (في عهد الشاه)، أو تقويتها لتوازن دور تركيا الحالي، أو على الأقل الضغط على تركيا لتعود للحظيرة الأمريكية سريعاً. فهل مثل هذه السيناريوهات ممكنة التطبيق سهلة التنفيذ؟

 

لا يبدو ذلك ممكناً في وقت قصير جداً، وسيحتاج الطرفان إلى فترة زمنية ما لتمرير الاتفاق وملاحقه وتوابعه لشعبيهما وللأسرة الدولية، في حين لا تبدو تركيا مستسلمة لمحاولات التهميش هذه. فتغيير بعض تكتيكاتها وخطابها السياسي إزاء الحل في سوريا، إضافة لانفتاحها على اكراد العراق، وزيارة داود أوغلو للأخير ومن ثم لإيران، كلها خطوات توحي بحملة دبلوماسية نشطة ومرنة، لا تحاول فقط تجنب التضرر الكبير من “تسونامي” الاتفاق النووي بل وتسعى أيضاً للاستفادة منه قدر الإمكان.

 

هنا، لا يجب أن ننسى إمكانات تركيا في التأثير في المشهد السوري سياسياً وميدانياً من خلال بعض مكوّنات المعارضة، إضافة لما قد يعود عليها رفع العقوبات عن إيران من منافع اقتصادية وسياسية إن أحسنت استثمارها، وهو ما يبدو أنها تحاول فعله من خلال رحلات أوغلو المكوكية الأخيرة.

 

إن التحركات السياسية والاتفاقات الأخيرة المبرمة في المنطقة أشبه ما تكون بتحركات على رقعة الشطرنج، تلك التي لا تحسم نتيجتها بعامل الوقت ولا بالهجمات السريعة الكبيرة، بل بتراكم الحركات الذكية المحسوبة، وهي حتى الآن تتم بحرفية عالية تجعل التكهن بنتائجها ضرباً من الكهانة.

شارك الموضوع :

اترك رداً