سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

تركيا من الاستقرار إلى الاستنفار

0

خلال أحد عشر عاماً من حكم حزب العدالة والتنمية، انتقلت تركيا من دولة تابعة، منهكة ومغمورة إلى قوة إقليمية ولاعب دولي مهم، على وقع الإصلاحات الديمقراطية، والتنمية الاقتصادية وإبداعات منظر سياستها الخارجية داود أوغلو، لا سيما نظرية “تصفير المشاكل” مع دول الجوار. لقد سارت تركيا بخطى ثابتة، بطيئة حيناً وسريعة أحياناً أخرى، نحو المكانة التي تحتلها حالياً، لكنها تبدو اليوم أمام مفترق طرق وعلى شفا عدة سيناريوهات، تأثراً ببعض الملفات المحلية والإقليمية والدولية التي اجتمعت معاً لتشكل، ولو نظرياً، احتمالاً لتهديد الاستقرار والنمو المضطرد الذي شهدته تركيا على مدى هذه الأعوام.

 

الأزمة السورية وتصفير المشاكل

بعد سنوات الانفتاح التي انتهجتها تركيا وشملت العالم العربي خصوصاً من البوابة السورية، وبعد نجاحات مذهلة حققتها نظرية داود أوغلو في تسوية النزاعات مع دول الجوار (ومنها العراق، إيران، اليونان، أرمينيا، وسوريا) جاء الربيع العربي، والثورة السورية تحديداً، كحائط سد أمام هذه النظرية، وما لبثت تركيا أن وجدت نفسها بحاجة إلى نظرية أو سياسة أخرى، لتنفذ المبادئ التي تنظر بها من جهة، ولتحفظ مصالحها من جهة أخرى، ولتحمي صفها الداخلي من نيران الثورة وارتداداتها من جهة ثالثة.

 

فإلى جانب موقفها الإنساني من اللاجئين السوريين على أراضيها (الضيوف كما يحلو للأتراك أن يرددوا)، كان الموقف السياسي للحكومة التركية متضاداً مع محور إيران (إيران – العراق – النظام السوري)، ولكنه ظل في نفس الوقت متمايزاً عن الموقف الغربي، وقد اتضح ذلك جلياً في أزمة السلاح الكيماوي السوري. كما كان الموقف الرسمي التركي واضحاً، حاد الخطاب ومرتفع السقف إزاء الانقلاب في مصر، مما زاد في الغضب الغربي من استقلالية السياسة الخارجية التركية واحتمالية شبوبها عن طوق المنظومة الغربية، وانعكس ذلك على عدة ملفات سنشير إليها.

 

الناتو وصفقة السلاح

رغم ما تمثله من قوة ارتكاز لحلف شمال الأطلسي في المنطقة كذراع متقدمة، فقد شهدت علاقات تركيا مع الأخير توتراً كبيراً خلال الأسابيع الماضية، بسبب صفقة صواريخ عقدتها تركيا من الصين، حيث هاجم إعلام دول الحلف تركيا بشكل مبالغ به معتبراً أنها تضر استراتيجياً بالحلف وتخرق قوانينه، فيما دافعت تركيا عن موقفها باعتبار أن ما فعلته حق لها وله سوابق عدة، وأنها اضطرت لتفضيل الصفقة الصينية على الأمريكية بسبب تضمنها إعطاء التقنية/الشيفرة مع الصواريخ ولفرق التكلفة الكبير بين الاثنتين. مراقبون كثر رأوا في موقف الغرب من تركيا تحيزاً وضغطاً بسبب نزعة الأتراك مؤخراً للاستقلالية في مضامير السياسة الخارجية.

 

عملية السلام وأزمة رئيس المخابرات

بعد عشرات السنوات من التنكر لحقوق الأكراد والاعتراف بهم عرقاً ولغة وثقافة كأحد مكونات الشعب التركي، وبعد أكثر من ثلاثين سنة من العمليات الكردية العسكرية، وإثر التدرج في عدد من القوانين التي أعطتهم شيئاً من حقوقهم الثقافية والاجتماعية، وعلى وقع مشاريع اقتصادية كثيرة و كبيرة اهتمت بجنوب شرق تركيا ذي الأغلبية الكردية، بدأ حزب العدالة والتنمية الحاكم ما أسماه “عملية السلام” لإعطاء الأكراد كامل حقوقهم مقابل إلقاء حزب العمال الكردستاني للسلاح. عملية كهذه، بما تحمله من آثار استراتيجية على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية لتركيا، أثارت مخاوف العديد من القوى الخارجية المتهيبة من نموها المطرد، مما أثار موجة تحريض ضد مهندس الاتفاق مع حزب العمال الكردستاني رئيس الاستخبارات التركية السيد “هاقان فيدان”. فقد تعرض الأخير لتحريض واضح ومكثف من بعض الصحف الغربية الكبيرة ومنها الواشنطن بوست، التي اتهمته بأنه ذراع للحرس الثوري الإيراني وداعم للقاعدة في سوريا، على خلفية إبلاغ الإيرانيين بداية عام 2012 عن خلية استخباراتية إيرانية تعمل لصالح الموساد الإسرائيلي كانت تجتمع في تركيا.

 

الملفت للنظر أن فيدان نفسه كان قد تعرض لهجمة من قوى محلية ووسائل إعلامها قبل أشهر، بل صدر قرار باستجوابه وظهرت مطالبات بمحاكمته بتهمة الخيانة بسبب الاتصال مع حزب العمال الكردستاني، مما اضطر ادروغان والرئيس غل وقتها لإصدار قانون يحصن منصب رئيس المخابرات من الاعتقال والتحقيق إلا بأمر مباشر من رئيس الوزراء وأمام محكمة خاصة. الدوائر القريبة من الحزب الحاكم رأت فيما سبق وما يجري حالياً محاولة لاستهداف اردوغان والحكم الحالي من بوابة فيدان، رجل اردوغان القوي وذراعه الأيمن.

 

المظاهرات وأزمة الحجاب

بعد زوبعة مظاهرات واحتجاجات ميدان تقسيم قبل أشهر كان متوقعاً حسب التسريبات الحكومية تنفيذ بعض القوى اليسارية المحظورة لمظاهرات مشابهة مع بداية العام الدراسي أوائل الشهر الحالي، لكن التحركات الأخيرة بقيت محدودة ودون ظهير شعبي، خصوصاً بعد ان نحت منحى تخريبياً. اليوم تطفو على السطح إرهاصات أزمة سياسية بين الحزب الحاكم وأكبر أحزاب المعارضة (حزب الشعب الجمهوري) بسبب نية ثلاث نائبات من الأول ارتداء الحجاب تحت قبة مجلس الأمة بعد عودتهنَّ من رحلة الحج، وعزم حزب الثاني رفض ذلك ومنعهن من تنفيذه.

 

وفيما تحذر تقارير الاستخبارات التركية وأجهزة أمنها من مخططات للمجموعات المرتبطة تنظيمياً بحزب العمال الكردستاني (يشاع أن لها ارتباطات مع إيران والنظام السوري) لاستغلال أي توتر سياسي في البلد لتنفيذ عمليات انتحارية أو تفجيرية لنسف “عملية السلام”، يخشى عدد من المطلعين أن تكون الأزمة السياسية المفترضة الذريعة التي ينتظرها هؤلاء.

 

الانتخابات وغياب اردوغان

بعد ثلاث معارك انتخابية زادت فيها شعبية حزب العدالة والتنمية باستمرار وبلا منافسة تذكر، تبدو الانتخابات المحلية المقبلة في الثلاثين من شهر آذار/مارس 2014، ثم البرلمانية عام 2015 مختلفة لأسباب كثيرة، على رأسها اعتزام اردوغان عدم الترشح مجدداً ضمن ما ألزم به نفسه وأعضاء حزبه من خلال نظام الحزب الداخلي، رغم سماح القانون التركي له بذلك، دون ظهور سيناريوهات واضحة لخلافته او لأسماء محددة بعينها.

 

وتشير كثير من استطلاعات الرأي إلى أن غياب اردوغان عن صدارة المشهد السياسي قد تؤثر في شعبية الحزب وتحرمه من عدد لا بأس به من الأصوات والمقاعد في البرلمان القادم، بينما تظهر استطلاعات أخرى استمراره بالصدارة والقدرة على تشكيل الحكومة منفرداً حتى بغياب مؤسسه وقائده صاحب الكاريزما والفضل الأكبر في شعبية الحزب ونجاحه حتى الآن.

 

لكن الانتخابات، كما في كل النظم الديمقراطية، تبقى صندوقاً مغلقاً، مفتوحاً على كل الاحتمالات، وتبقى المسيرة نحوها محفوفة بالتوترات السياسية والمنافسات الحزبية، ويبقى المشهد التركي ما بعد الانتخابات القادمة في عالم المجهول، حتى ولو كان هنالك بعض الإشارات والقرائن على النتائج المرتقبة.

 

 

خلاصة الأمر أن ملفات عديدة وكبيرة اجتمعت في فترة زمنية متقاربة لتجعل المشهد السياسي التركي أكثر دينامية وسخونة على المدى القصير والمتوسط، وعلى أبواب استحقاقات مختلفة، ربما يكون من شأنها التأثير على بعض الملفات الكبرى داخلياً وخارجياً، على رأسها السياسة الخارجية التركية، التي كانت في الفترات الماضية مثيرة للجدل ومثاراً لانتقاد البعض بهذه الدرجة أو تلك.

شارك الموضوع :

اترك رداً