سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

التقارب الأمريكي – الإيراني .. السياق والآفاق

0

فاجأت الكثيرين تلك المكالمة الهاتفية التي جرت بين الرئيسين الأمريكي أوباما والإيراني روحاني، في ظل رسائل إيجابية من الطرفين. وليس مكمن العجب الوحيد تلك البراغماتية التي جمعت النقيضين (داعم الإرهاب والشيطان الأكبر)، بل كانت سرعة هذا التقارب بعد أشهر من كلام الحرب والتدخل العسكري ملفتة للنظر. فهل كانت تلك المكالمة “التاريخية” فعلاً مفاجئة وأتت من غير سياق وبلا مقدمات، أم أنها كانت ثمرة لعدة أسباب ونتيجة لعدة إرهاصات حصلت خلال الأشهر القليلة الماضية؟

 

أسباب ذاتية

من الناحية النظرية، تبنى الرئيس الأمريكي أوباما منذ انتخابه سياسة الاحتواء بدل المواجهة، والحوار بدل الحرب، ووعد بتحسين صورة الولايات المتحدة الأمريكية في العالم، وإغلاق معتقل غوانتانامو، إلى غير ذلك من السياسات التي أراد أن يصبغ عهده بها. ولعل ما حدث أخيراً من “اضطراره” للتلويح بالتدخل العسكري في سوريا وتراجعه لدى أول طوق نجاة روسي ما يؤكد لنا هذا التوجه، خاصة وهو يتأهب لترك مكانه في البيت الأبيض لخلفه.

 

على الناحية المقابلة، أتى الشيخ حسن روحاني إلى سدة الحكم في الجمهورية الإيرانية كنتيجة لاتفاق أو توافق غير معلن بين الشعب والمرشد علي خامنئي على شخصه وسياسته، ليركز على هدفين رئيسين: تحسين الاقتصاد والانفتاح على الآخر. ورغم كونه من المحسوبين على التيار المحافظ ومعروف بتبعيته لخامنئي، إلا أنه كان مشهوراً منذ توليه الملف النووي في بلاده بتفضيله لغة الحوار مع الغرب للتوصل إلى حل يرضي الطرفين، من دون أن تتنازل إيران عن أهدافها النووية السلمية.

 

أسباب إقليمية

تطورات كثيرة وكبيرة حدثت مؤخراً خلطت أوراق الشرق الأوسط وأولويات الولايات المتحدة تحديداً فيه، تاتي على رأسها الضربة العسكرية التي ألغيت ضد النظام السوري والانقلاب العسكري الأخير في مصر. فالتطور الأول أرسى صيغة الحل السياسي في سوريا كحل أوحد في المدى المنظور، وجعل من روسيا وإيران لاعبين رئيسين لا يمكن تجاوزهما في أي حل مستقبلي. ويبدو لافتاً هنا تقديم إيران لمبادرة سياسية لحل الأزمة وإعلانها عن استعدادها لحضور مؤتمر جنيف المتعثر منذ أشهر.

 

أما الانقلاب العسكري في مصر فقد أربك حسابات الكثيرين، وجعل أوباما يفكر ألف مرة قبل أي اضطراب جديد في المنطقة، لحين استتباب الأمر للقادة الجدد في مصر، الحليف القديم الجديد، حفاظاً على الاستقرار وهدوء الحدود مع إسرائيل ومصالح الولايات المتحدة الأخرى.

فإذا ما أضفنا لهذين العاملين تغير النظرة الامريكية للقيادة التركية بعد افتراق وجهات النظر بشكل كامل في الملفين السوري والمصري تحديداً، سنجد أن الإدارة الأمريكية تسعى بجد للتوصل لاتفاق سياسي مع إيران يحفظ مصالحها ويفتح آفاقاً مستقبلية للتعاون، سيما وأن نموذج العراق (ومن قبله أفغانستان) ما زال ماثلاً للعيان وشاهداً على إمكانات التوافق والتنسيق، أو على الأقل التغاضي وحفظ المصالح.

 

رسائل وإرهاصات

بدأ الرئيس الإيراني فترة حكمه برسائل إيجابية وغزل واضح نحو الولايات المتحدة الأمريكية، حين أعلن غير مرة عن إمكانية التلاقي مع الغرب وإجاد حل يرضي الجميع. ثم تقدم خطوة أخرى ليعلن عن خطة وجدول زمني ينهي الخلافات خلال مدة لا تتجاوز الستة أشهر. الولايات المتحدة بدورها لم تفوت الفرصة وأصدرت عدة تصريحات متفائلة تترك الباب موارباً على لقاءات وحوارات ممكنة، مشترطة الشافية وإجراءات إثبات حسن النوايا من الطرف الإيراني.

 

كما أن روحاني كان معنياً بشكل واضح بتغيير الصورة النمطية لسلفه أحمد نجاد، من خلال سلسلة تصريحات كان منها تهنئة اليهود بالسنة الجديدة والتكلم عن السلام في الشرق الاوسط، وختمها بكلمته في الأمم المتحدة ولقائه عدة مرات مع وسائل الإعلام الأمريكية أكد في آخرها اعترافه بالمحرقة (الهولوكوست) وقبوله ب”ما يقبله الفلسطينيون” في نهاية عملية التسوية. كل هذه التصريحات والمبادرات اعتبرها المتابعون بطاقة اعتماد الرئيس الجديد لدى الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية.

لاحقاً، كان التطور الأكبر هو قبول الرئيس الفرنسي دعوة نظيره الإيراني للقاء على هامش اجتماعات الأمم المتحدة في نيويورك، وتسريب أخبار (لم ينفها أو يؤكدها أي من الطرفين) عن إمكانية عقد لقاء بين الرئيسين الأمريكي والإيراني. توجت هذه الإرهاصات المتعددة بلقاء وزيري الخارجية كيري وظريف، الذي يعتبر الأرفع بين البلدين منذ الثورة الإيرانية (باستثاء لقاء قصير جداً عام 2005)، واجتماع الأخير بكاثرين أشتون ووزراء خارجية الدول الست (الدول الدائمة العضوية بمجلس الامن مع ألمانيا) التي تفاوض الإيرانيين بخصوص برنامجهم النووي، وتم الاتفاق على موعد قادم لمتابعة المباحثات أواسط تشرين أول/ أكتوبرالمقبل.

 

إلى أين؟

رغم التصريحات المتبادلة بعد سلسلة اللقاءات هذه، وما تحدث عنه الرئيس روحاني من إذابة الجليد بين الطرفين، وكلام أوباما عن “تفاؤله” بحل المسألة بعد اتفاق على خطة تمتد على مدار عام كامل، وكلام كيري عن إمكانية تخفيف العقوبات على إيران بعد أشهر، إلا أن عملية التقارب والحل هذه دونها صعوبات عدة، قد تكفي إحداها لنسف العملية السياسية وتؤدي للعودة إلى نقطة البداية.

 

فمن ناحية، يبدو الموقف الأمريكي/ الغربي حذراً إزاء نوايا إيران وإمكانية التزامها، في حين تستمر إسرائيل في التحذير منها والتحريض على برنامجها بادعاء أنه ليس برنامجاً سلمياً خالصاً. هنا، يبدو الغموض الذي يلف المدى الذي وصله المشروع الإيراني أحد العوامل التي دفعت بالغرب إلى قبول الجلوس إلى الطاولة مجدداً، لكنه قد يكون أيضاً عامل إفشال لتلك المحادثات إذا ما تبين تقدمه إلى مراحل “لا يمكن قبولها” غربياً.

 

ومن ناحية أخرى، ما زال الوقت مبكراً للحكم على المباحثات وآفاقها، وعلى قدرة روحاني على إقناع الداخل الإيراني والقيادات المحافظة في البرلمان بصوابية ما يقوم به. بهذا الصدد، أشار عدد من المراقبين إلى أن إلغاء (أو تأجيل) اللقاء المفترض بين روحاني وأوباما أتى بطلب إيراني بسبب الخوف من ردة الفعل الداخلية على هذه “الخطوة المتقدمة”، وهو افتراض تدعم منطقيته تصريحات روحاني والناطقة باسم وزارة خارجيته بأن الوقت ما زال باكراً لهكذا لقاء، وأنهم كانوا يحتاجون “لوقت أطول للترتيب له”. هنا يجب أن ينظر للمظاهرة الاحتجاجية التي استقبلت روحاني في طهران إثر عودته من نيويورك (بغض النظر عن الحجم والأعداد) على أنها رسالة مهمة، قد يكون لها ما بعدها.

 

فهل يسير الطرفان، الأمريكي/الغربي والإيراني في شوط المباحثات التي فرضتها الضرورات والمصالح إلى النهاية، أم أن هناك مفاجآت أخرى في الطريق قد تعيق المسيرة أو تعيدها إلى المربع الأول؟ لا ندعي أننا نملك إجابة شافية على هكذا تساؤل في ظل معطيات عدة ومناخ إقليمي متقلب، لكننا نعتقد أن بضعة أسابيع قادمة قد تكون كفيلة بالإجابة عليه.

شارك الموضوع :

اترك رداً