سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

هل تأجل الاتفاق النووي أم تأجل التوقيع فقط؟

0

انشغلت المنطقة على مدى الأسابيع الأخيرة بحديث الصفقة الوشيكة حول الملف النووي بين إيران ودول (5 زائد 1) في الاجتماع المرتقب الذي تم قبل أيام. لم تكن هذه الصفقة لتشمل الملف النووي وحده، فالصفقات تضمن عادة مصالح الطرفين بعد تنازلات يقدمها كلاهما، وعليه فقد كنا – وما زلنا – نتوقع اتفاقاً شاملاً يتضمن معظم الملفات العالقة بين الطرفين، وعلى رأسها مصالح الغرب في المنطقة ومساحات النفوذ الإيراني المسموح بها فيها، في سوريا والعراق، ثم لبنان واليمن وغيرها.

لكن اجتماع الرابع والعشرين من الشهر الحالي لم يحمل اتفاقاً ما، بل قرر الطرفان تمديد المهلة الممنوحة لإيران من قبل المجموعة، كسراً لنص الاتفاق السابق الذي كان يلحظ تمديداً واحداً، تم فعلاً في السابق، ومع غياب أي خطابات توتيرية، بل بالعكس مع فك الحظر عن أموال إيرانية إضافية تقدر بمئات ملايين الدولارات شهرياً. فهل فشل الطرفان بما يتيح لنا أن نقول إن الاتفاق أجهض أو على الأقل تأجل؟ حسناً، ربما هناك بعض القرائن والإشارات التي تجعلنا نظن عكس ذلك.

يجب علينا أولاً أن نلحظ أن لغة الخطاب بين الطرفين باتت مختلفة تماماً عما كان سائداً قبل أشهر فقط، حين كان المتواتر هو أحاديث التهديد بعمل عسكري “ضد” طهران، بينما تجري تسريبات الآن عن أعمال عسكرية تتم بالتعاون “مع” طهران ضد تنظيم الدولة في العراق. والحال كذلك، نرى أن الاتفاق الإيراني الغربي قبل سنة حمل بذور دور إيراني مقبل في الإقليم، ربما لا يجعلها شرطي المنطقة بالمعنى الحرفي لما كان سائداً أيام الشاه، لكنه على الأقل يحلها مكان تركيا أو يوازي ويضعف دور الأخيرة في حماية مصالح الغرب ضمن صفقة شاملة، بعد أن أثبتت طهران قوتها ووضعت أوراقها على طاولة التفاوض.

سطوع نجم تنظيم الدولة بالطريقة التي عرض نفسه بها، والتي تهدد مصالح كلا الطرفين – تركيا وإيران – إضافة إلى المصالح الغربية، جعلت الجميع يعيد حساباته. ضغطت واشنطن على أنقرة للتدخل البري ضد التنظيم، لكن الأخيرة تصرفت بحذر وترقب، خشية الانزلاق إلى المستنقع السوري دون الاتفاق مع الولايات المتحدة على استراتيجية واضحة وأهداف بينة، يأتي على رأسها – وفق رؤيتها – إسقاط نظام بشار الأسد، وإلا ستكون فوتت على نفسها فرصة تاريخية بعد ثلاث سنوات ونصف من الثورة السورية التي ربما تكون هي في المرتبة الثانية في قائمة الخاسرين فيها بعد الشعب السوري.

أكثر من شهرين من الضربات الأمريكية الجوية لم تهزم التنظيم، ولم تغير كل الضغوطات – حتى كتابة هذه السطور – من الموقف التركي، ولا أمل بمشاركة فاعلة من المعارضة السورية في المستقبل القريب. عوامل لا يمكن تجاهل أثرها في تغيير بعض المواقف، التي أتى أولها من واشنطن باستقالة وزير الدفاع في تعبير واضح عن الفشل والخلافات الداخلية، ثم بتصريح أوباما أن استيراتيجيته ستلحظ مستقبلاً إسقاط نظام الأسد. فهل كان هذا اقتراباً من تركيا، أم اقتراباً من اتفاق ما مع إيران؟

تقول تركيا إن ممارسات نظام الأسد هي الأساس فيما وصلت إليه البلاد وهي السبب في وجود ثم تمدد تنظيم الدولة (داعش) وبالتالي لا بد من إسقاطه كحل جذري، ويقول التاريخ إن إيران دولة كبيرة وبراغماتية إلى أبعد الحدود وإن المهم عندها مصالحها، وتقول السنوات الأخيرة إن روسيا أقرب إلى الصفقات منها إلى المواجهات، ىبينما تقول مصادر المعارضة السورية إن هيلاري كلينتون قالت لهم منذ بدايات الثورة (في مؤتمر أنطاليا بعد أشهر فقط من اندلاعها) إن سقوطاً سريعاً وغير محسوب لنظام الأسد قبل تجهيز البديل غير مسموح به أمريكياً.

والحال كذلك، فالموقف الأمريكية أقرب إلى عقد صفقة إذاً مع الروس و/أو الإيرانيين منها إلى التلاقي مع تركيا وتحقيق شروطها، إلا بالمقدار الذي يضمن عدم معارضتها ثم مباركتها لأي حل قادم. فلماذا إذاً لم يتم التوصل إلى اتفاق ما خلال الاجتماع الأخير، رغم حاجة إيران له، وحاجة أوباما أيضاً إلى إنجاز ما قبل مغادرته البيت الأبيض، بل قبل أن تقلص مساحاتِ مناوراته الأغلبيةُ الجمهورية المتشكلة أخيراً في الكونغرس؟

كل ذلك يوحي بأن اتفاقاً ضمنياً ما تم التوصل إليه، بينما تأخر الإعلان عنه أو توقيعه على الملأ لأسباب عدة، منها عدم نضوج الداخل الإيراني وحلفاء طهران لصفقة شاملة ستنقل الأخيرة من معسكر مواجهة “الشيطان الأكبر” إلى التحالف معه، ومنها – برأيي – الحاجة إلى البدء بخطوات عملية على الأرض والاطمئنان إلى سلامة سيرها قبل التوقيع. لكن الاتفاق الضمني لن يقضي بسقوط النظام بل بإعادة تهيئته وهيكلته، باستبدال أحد رجاله بالأسد، مع حكومة ائتلافية تضم شخصيات معارضة (ليست بالضرورة من الائتلاف)، وبذلك يكون هناك “تغيير” ما، ويكون هناك استدامة للاستقرار، وحفظ لمصالح الجميع. ولهذا الأمر عدة شواهد، منها:

أولاً، تصريحات مستشار وزارة الخارجية الإيرانية محمد علي سبحاني قبل أيام والتي انتقد فيها النظام السوري واتهمه بإيصال الأوضاع إلى ما آلت إليه اليوم، بعد أن “عبر الشعب السوري في البداية عن مطالبه المشروعة بالطرق السلمية”. فإذا ما أضفنا له تصريح رفسنجاني قبل أسبوعين بأن بعض السياسات الطائفية لإيران وحلفائها هي السبب في ظهور التشدد والإرهاب، سنجد أنفسنا أمام تغير غير طفيف في الموقف الإيراني. فلسنا نظن أن مسؤولين بهذا الحجم سيقولون كلاماً غير محسوب أو يعبر عن آرائهم الشخصية في هذه الفترة الحرجة، في دولةٍ المعارضة فيها جزء من النظام.

ثانياً، إن تغير تصريحات الإدارة الأمريكية من الأولوية لتنظيم الدولة فقط وعدم التعرض للنظام السوري إلى ضرورة إسقاط بشار الأسد (الحديث عن الشخص وليس النظام) قد لا يعني قناعة جديدة بقدر ما قد يعني اتفاقاً جديداً تم إبرامه، وعلى أساسه كان التصريح. ويجب هنا أن نحاول تخيل ما تم التوصل إليه في الاجتماعات السرية بين إيران والولايات المتحدة (وليس كل الدول الستة) في عُمان وأذربيجان مؤخراً، إضافة إلى المشاركة الفعلية من قبل قوات محسوبة على إيران في المعارك ضد تنظيم الدولة في العراق.

ثالثاً، زيارة وفد من المعارضة السورية بقيادة معاذ الخطيب إلى روسيا قبل أيام والحديث عن موقف روسي إيجابي واحتمال طرح مبادرة سياسية، بعد “اقتناع الجميع أن الحل لن يكون عسكرياً”. كما صرح النظام السوري أن رده على مبادرة دي ميستورا سيعتمد على رد المعارضة (موافقة ضمنية)، التي وضعت لذلك شروطاً (موافقة ضمنية أخرى). إلى ذلك خرجت تسريبات حول موافقة أو شبه موافقة روسية على المبادرة. هنا لا بد وأن نضع في التقييم زيارة بوتين المرتقبة بعد بضعة أيام إلى أنقرة ومشاريع الطاقة الضخمة التي يحملها وعبارات المديح التي ساقها لتركيا منذ الآن. فهل سيكون هذا جزءاً من الثمن المدفوع لتركيا لتوافق وتشارك؟!

وعليه، فربما تكون خطوات مثل وقف إطلاق النار وبدء مشروع سياسي يفضي بتغيير الأسد والإبقاء على النظام سابقة على التوقيع على اتفاق واضح المعالم والخطوات في الملف النووي الإيراني بعد ستة أشهر من الآن.

شارك الموضوع :

اترك رداً