سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

كرة القدم ومشكلة الانتماء

0

تطالعنا بين الفينة والأخرى دعوات توجه لمحبي و”مجانين” كرة القدم أن يخففوا من الاهتمام المبالغ فيه بمباراياتها ونتائجها ولاعبيها، في ظل الواقع الأليم الذي يعيشه العالم العربي-الإسلامي، من فلسطين لمصر، ومن سوريا للصومال، ومن السودان للبنان.

ولئن كان في هذه الدعوات بعض الوجاهة، لجهة التناقض الصارخ بين الواقع الذي نعيش وبين اهتمامات الكثير من الشباب، لكنها دعوات تكتفي في الغالب باللوم والتقريع، ولا تحاول الوصول إلى أصل الداء وجذور المشكلة. فإذا ما نظرنا إلى الفارق الكبير بين عدد المهتمين بمباراة كرة قدم (لفريق أجنبي، وليس بالضرورة لمنتخب بلادهم) وبين الذين يؤرقهم واقع شعبهم ومستقبل بلادهم، لتأكد لنا كم نحتاج إلى سبر أغوار المشكلة نحو أعماق أسبابها وظروف تشكلها، بعيداً عن الغضب المحض أو العتاب الجاف.

بداية لا بد من التأكيد على أن المنتقد (بفتح التاء) هو المبالغة في الاهتمام وصرف الأوقات والجهود، وليس مجرد المتابعة، فلا خلاف على مبدأ الترفيه عن النفس ضمن حدود المنطق والممكن.

أحد أسباب هذه المشكلة هو الواقع المزري الذي نعيشه فعلاً. فعلى مر التاريخ، حين تواجه الشعوب أزمات وجودية أو مستدامة، يجنح جزء من أبنائها – تحت وقع الأزمة والتشاؤم والعجز – نحو “الانتحار الاجتماعي”، الذي قد يتمثل بتيارات فكرية شاذة، أو اهتمامات تافهة، أو انحلال أخلاقي، حتى إن بعض المؤرخين يرجعون الانتشار الكبير لشطحات الحركات الصوفية في العالم الإسلامي إبان الحروب الصليبية إلى العجز عن الفعل في الواقع، والبحث عنه في الخيالات والأوهام.

كما إن الاهتمام بكرة القدم (والفن وغيرها من المرفهات) يعتبر سياسة معتمدة لدى كثير من النظم، سيما الشمولية منها، إذ تحاول شغل المواطن بلقمة العيش والشباب بالرياضة والفن (التافه منه تحديداً) لإبعادهم عن المطالبة بحقوقهم أو التفكير بخوض غمار السياسة. ويذكر في هذا الصدد أن النظام في تركيا قد زاد من عدد الساعات الدراسية في الجامعات وصعب نظم الامتحانات – إضافة إلى ترويج الرياضات المتنوعة – بعد انقلاب عام 1980 لشغل الشباب عن تعاطي السياسة في الجامعات تحديداً.

ولا يبدو الفراغ الذي يعانيه الشباب، لناحية الوقت والعاطفة، بعيداً عن منظومة الأسباب التي تؤدي لهذه الظاهرة، إذ يحتاج الشباب تحديداً إلى مساحات وآليات وأنشطة ومؤسسات يفرغون في أطرها طاقاتهم وفائض أوقاتهم، فحين لا يجدون أمثال هذا، يتلقفهم أي نوع من أنواع الترفيه المستهلك للوقت والطاقة، خيراً كان أم شراً. وقديماً قالوا: إن لم تشغل نفسك بالخير شغلتك بالشر.

وأخيراً، تتجاذب هذا النوع من النقاشات جدلية السبب والنتيجة: هل تعيش أمتنا هذا الواقع الأليم لأن الكثيرمن شبابها يهتم بالتوافه من الأمور، أم إن العكس هو الصحيح؟ وهل يُعرض هذا الشباب عن قضايا الأمة المهمة لأنه منشغل بكرة القدم وأخواتها، أم إن عدم  اندماجه بشكل فعلي في تلك القضايا هو الذي يرميه بين أحضان كرة القدم بهذه الطريقة؟

وبغض النظر عن وجاهة هذه المقاربة وفائدة هذه الجدلية الفلسفية، تبرز أمامنا حقيقة واضحة المعالم، تفيد بأن الشباب تحديداً يبحثون عن الانتماء والهوية، أياً كان وصفها وأهميتها ومكانها، فإن لم يجدوا هذا الانتماء بحثوا عنه في ناد لكرة القدم أو فنان يحبونه أو تيار فكري يلهثون وراء أفكاره ..الخ.

باختصار شديد، إن أردتم حل المعضلة، قوّوا الانتماء لدى شبابكم، وثبـّتوا هويتهم، وأشغلوا وقتهم، وفرغوا طاقاتهم بالنافع المفيد، وحينئذ لن يكون هناك – على الأقل – ظاهرة اسمها التلهي المبالغ به بكرة القدم، وسيعود الأمر لحدوده العادية المنطقية المقبولة.

شارك الموضوع :

اترك رداً