سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

معركة في ظلال معركة

0

بينما انشغل الرأي العام التركي والمهتمون بالشؤون التركية على مدى أسابيع بالتحالف الدولي الذي أنشئ لمكافحة تنظيم الدولة (داعش) ثم بأعمال الشغب التي سادت المدن التركية المختلفة وتأثير كل ذلك على ملفات تركيا الداخلية والخارجية وخصوصاً عملية السلام مع الأكراد، كان ثمة معركة داخلية مهمة جداً ومؤثرة تدور رحاها في السلك القضائي التركي، لكن دون أن تحدث الأثر الإعلامي المناسب لحجمها وأهميتها وانعكاساتها.

فقد كانت تركيا قبل أيام على موعد مع انتخابات الهيئة العليا للقضاة والمدعين العامين، ذات الصلاحيات الكبيرة في السلك القضائي والمسؤولة عن القضاة والمدعين العامين في مجالات عديدة مثل الترقيات والابتعاث والمتابعة والمحاسبة. دارت المنافسة في تلك الانتخابات بين ثلاثة قوائم: قائمة “منبر الوحدة في القضاء” المقربة من الحكومة، وقائمة “يارساف” العلمانية وقائمة مستقلة محسوبة على جماعة كولن، المسيطرة على الهيئة والمتنفذة في القضاء.

ورغم التوقعات بمنافسة شديدة بين القوائم الثلاث وصعوبة هزيمة الجماعة في معقلها الأخير أمام الحكومة، اعتبرت النتيجة هزيمة ساحقة لها أمام القائمة المقربة من الحزب الحاكم. فقد فاز منبر الوحدة في القضاء بثمانية أعضاء من أصل عشرة أصلاء، وأربعة من أصل ستة احتياطيين تم انتخابهم، فيما سيعين رئيس الجمهورية أربعة أعضاء، إضافة إلى وزير العدل وعضو تختاره “أكاديمية العدل” من بين أعضائها، لتتم الهيئة بأعضائها الـ 22.

هكذا، تكون الحكومة قد حصلت على غالبية مريحة والجماعة قد خسرت نفوذها في الهيئة التي عرقلت الكثير من الإجراءات الحكومية في السلك القضائي، ومنعت محاسبة ومعاقبة الكثير من رجال الشرطة والأمن المشتبه بتورطهم في عمليات تجسس أو الانتماء للتنظيم الموازي، الذي تتهمه الحكومة بالتبعية لجماعة كولن والترتيب لانقلاب قضائي في حملة الخامس والعشرين من كانون أول/ديسمبر الفائت.

وتكمن أهمية هذه الانتخابات باعتبار السلك القضائي آخر معاقل الجماعة في حربها الخفية ضد الحكومة، منذ محاولة اعتقال رئيس المخابرات حاقان فيدان في شباط/فبراير 2010، ثم الهجمة المعلنة من خلال “حملة مكافحة الفساد” في كانون أول/ديسمبر الماضي. فقد سبق للحكومة أن قامت بإجراءات احترازية وحملات نقل وإعفاء واعتقال للعشرات من المتهمين بالانتساب للتنظيم الموازي والمشاركة في عمليات التنصت والتجسس على مؤسسات الدولة والترتيب لما اعتبرته الحكومة “انقلاباً قضائياً”. كما قامت أيضاً بمحاصرة الجماعة اقتصادياً من خلال التضييق على “بنك آسيا” المملوك لها، والحملة الإعلامية التي أدت إلى تقليل التبرعات التي تحصل عليها من داخل وخارج تركيا.

وهنا يطرح السؤال نفسه، ما الذي ستقدم عليه الحكومة الآن؟ وهل هذه نهاية الجماعة في تركيا فعلاً؟

لا تبدو الإجابة على هذا السؤال سهلة بمكان، فتركيا في النهاية دولة قانون، والقضايا من هذا النوع تستغرق وقتاً طويلاً وليست تحت إمرة الحكومة، لكن الأخيرة تملك فيما يبدو خيارين على الأقل في المرحلة المقبلة:

الأول، إجراءات إعلان التنظيم الموازي تنظيماً إرهابياً أو مضراً بالأمن القومي، والعمل على محاصرته داخلياً عبر القضاء وخارجياً عبر التواصل الدبلوماسي مع الدول التي ينشط بها، وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية التي تستضيف زعيم الجماعة فتح الله كولن. لكن هذه الخطوة تكتنفها العديد من المخاطر والمحاذير، حيث تحتاج الحكومة إلى الفصل بين مناصري الجماعة العاديين وبين منتسبي المؤسسات المختلفة الذين عملوا تحت إمرة التنظيم الموازي، وإلى توضيح رؤية وسياسات الحملة للرأي العام، وإلى إجراءات تضمن الشفافية في توجيه التهم والتحقيقات والمحاكمات وتمنع الأعمال الانتقامية أو الاتهامات الجزافية.

الثاني، حزمة إصلاحات وصلاحيات في السلك القضائي قدمتها الحكومة للبرلمان التركي لمناقشتها والمصادقة عليها، يتوقع أن تساعدها في تسريع القضايا المختلفة، بعد أن اطمأنت – فيما يبدو – إلى انحسار سيطرة الجماعة على القضاء.

لكن، وبكل الأحوال، لا يتوقع أن تؤدي الحملة الحكومية إلى القضاء على الجماعة نهائياً، فلا يعرف ما في يدها – أو يد من يدعمها –  من أوراق قوة أخرى في مواجهة الحكومة، كما إن هذا ليس ممكناً ابتداءً فالتيارات التي تحظى بدعم شعبي قل أو كثر يصعب جداً إن لم يستحل اجتثاثها، كما لا يبدو أن هذا ما تريده الحكومة، بل جل ما قد ترغبه هو إخراج السلك القضائي من عباءة الجماعة وتحريره من نفوذها ليصبح مؤسسة ولاؤها التام للدولة التركية.

شارك الموضوع :

اترك رداً