سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

إيران وتركيا على الأرض السورية توازن ردع أم نذر حرب؟

0

في معمعة التطورات الجارية في المنطقة، ربما لم يعد هناك من شيء مستبعد، بما في ذلك الاحتمالات الكارثية التي يمكن أن تنقل الإقليم بأسره إلى منطقة اللاعودة. فهل تؤدي الأحداث الدائرة الآن على الأرض السورية إلى مواجهة تركية – إيرانية مباشرة؟

 

تاريخ دام وحاضر طموح

لا يختلف مراقبان على أهمية وقوة الدورين التركي والإيراني في المنطقة، فكلاهما يصدر عن دولة قوية ذات مشروع طموح، يستند بدوره على عناصر قوة عديدة في مقدمتها حقائق الجيوبوليتيك وعناصر الاقتصاد والقوة البشرية وإمكانات التمدد الاستيراتيجي في المنطقة. أدى المشروع الطموح وعناصر القوة لدى الطرفين في السابق إلى التنافس المحموم وأحياناً إلى المواجهة العسكرية، ويبدو ذلك مسطراً بشكل واضح في تاريخ الدولتين العثمانية والفارسية، بل وفي العصر الحديث مع الجمهورية التركية ودولة الشاه ثم الثورة الإسلامية في إيران.

لكن، ومع تجربة العدالة والتنمية في الحكم وفق نظريات داود أوغلو المتمحورة حول “تصفير المشاكل” مع دول الجوار، سعت تركيا نحو تعاون وتكامل مع الجارة القوية إيران، على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية. بل واعتبرت نفسها متنفساً لإيران المحاصرة غربياً، فقدمت نفسها وسيطاً مقبولاً من الطرفين استطاع عام 2010 أن يبرم الاتفاق الثلاثي بين إيران وتركيا والبرازيل لتبادل اليورانيوم الإيراني.

 

الأزمة السورية واختلاف المواقف

لكن الثورة السورية (التي تحول اسمها لاحقاً إلى الأزمة السورية أو الحرب الأهلية السورية) حملت أخباراً سيئة لهذا التعاون بين اللاعبَيْن الإقليميين. حيث رأت فيها إيران استهدافاً لحليفها السوري وتهديداً لمحور الممانعة الذي تتزعمه، بينما رأت فيه تركيا حقاً مشروعاً للشعب السوري الذي دعمت مطالبه في مواجهة النظام، بعد أشهر من المحاولات الدبلوماسية مع الأخير لم تفض إلى شيء.

ورغم التناقض الصارخ بين الموقفين، إلا أن العلاقة بين إيران وتركيا لم تصل يوماً إلى المواجهة المباشرة، ولو حتى إعلامياً. كان حرص الطرفين واضحاً على إبقاء الخلاف محصوراً في السياسة وعدم نقله إلى أبعاد أخرى، عسكرية أو اقتصادية، وفق منظومة حولت التعاون والتكامل إلى تجنب واحتواء.

حتى في أدق منعطفات الأزمة السورية كان يمكن رصد حرص أنقرة تحديداً على عدم استفزاز إيران وافتعال أي أزمة معها، في ظل تأكيد الدبلوماسية التركية على أهمية الدور الإيراني وما يمكن أن يقدمه في سبيل حل القضية. هذه الرؤية التي صنفت طهران كجزء من الحل لا المشكلة (رغم وجاهة الطرح الثاني أيضاً) وصل مع براغماتية السياسة الخارجية التركية إلى تسويق مشاركة إيران في مؤتمر جنيف الساعي إلى حل سياسي للأزمة السورية، يختلف بالضرورة وبشكل جذري مع مقاربة تركيا المنادية بضرورة إسقاط النظام السوري كركن أساسي للحل.

هذا التراجع التركي كان – في ذلك الحين – جزءاً من استيراتيجية تركية تسعى لاحتواء التقارب الإيراني الغربي بعد اتفاق الأولى مع دول (5 زائد 1)، والذي كان يبشر بتغير دراماتيكي في توازنات المنطقة وتحالفات الغرب فيها، بما في ذلك الرؤية والتعامل مع الأزمة السورية. نشطت الدبلومايبة التركية نحو إيران والعراق – قبل الغرب – مبدية رغبة في التفاهم إلى جانب عدد كبير من الاتفاقات الاقتصادية من النوع الثقيل أعادت بعض الدفء للعلاقات بين الطرفين.

 

هل يقع المحظور؟

لكن التحالف الدولي المتشكل حديثاً لمحاربة “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش) حول الدفء إلى سخونة، إذ لم تخف أنقرة اختلافها في الرؤية مع الولايات المتحدة الأمريكية ومن ورائها الحلف حول طريقة مجابهة “الإرهاب”. حيث تقوم مقاربة تركيا على اعتبار التنظيمات المتشددة نتيجة لجرائم الأسد وسياسات المالكي، وبالتالي فإن الحل يكون بانتفاء وتغييب السبب لا النتيجة.

ومما يثير الانتباه في هذا السياق أن التصريحات الإيرانية المتصاعدة في مواجهة أنقرة أعلى صوتاً بكثير من تلك الموجهة للولايات المتحدة الأمريكية مثلاً، ذلك أن الصياغة الغربية للحلف تؤيد من حيث أرادت أم لم ترد الرؤية السورية – الإيرانية حول “الإرهاب”، الأمر الذي دفع دمشق لعرض التنسيق والتعاون في المهمة في مواجهة “التنظيم”.

أما بالنسبة لتركيا فالأمر مختلف، فالجارة القوية تقول بوضوح أن هدفها من دخول الحلف هو “الحل الشامل” الذي يتضمن تغيير النظام في سوريا، بما يعني رجوع اللاجئين السوريين إلى أراضيهم والقضاء على المنظومة السياسية والاجتماعية والاقتصادية المضخمة لحاضنة “التنظيم” الشعبية. من هنا، يمكن فهم التصريحات الإيرانية المتواترة حول دور أنقرة “الخطير” في المنطقة، وتلميح لاريجاني عميق الدلالة عن سياسات تركيا التي “قد تضر بأمنها القومي”، والتأكيد أكثر من مرة – آخرها على لسان نائب وزير الخارجية الإيراني – أن طهران “لن تسمح” بسقوط نظام الأسد، رغم أنها أيضاً لم تهمل تقديم الجزرة مع العصا حين تحدثت عن تواصل و”تعاون” مع أنقرة في القضية السورية.

ويبدو أن أنقرة تدرك مخاطر الانجرار نحو هذه المواجهة المحتملة مع الجار اللدود، وتدرك ما في يد طهران من عناصر قوة ولعب في سوريا وفي الداخل التركي أيضاً مثل الورقة العلوية وملف عملية السلام مع الأكراد، ولذلك يسيطر على موقفها الهدوء الحذر والترقب الشديد، رغم الدعوات الملحة من الداخل والخارج لها للتدخل في معركة كوباني/عين العرب مع الأكراد في مواجهة التنظيم. ولذلك، تصر تركيا على أن استعدادها للتدخل في سوريا – تحديداً التدخل البري – يجب أن يكون شاملاً لا جزئياً، وتحت سقف قرار دولي ومشاركة متعددة وليس بشكل فردي، ووفق شروطها الثلاث المتمثلة بالمنطقة العازلة وحظر الطيران وتدريب المعارضة السورية.

حتى الآن، يبدو الطرفان قادرين على نزع فتيل الأزمة والاكتفاء بتبادل الاتهامات أو الرسائل السياسية، لكن توافق أنقرة وواشنطن الأخير على خطة تدريب وتسليح المعارضة السورية قد يحمل جديداً في مواقف الطرفين، فهذا التدريب والتسليح يعني تسريعاً ولو نظرياً لعملية التغيير في دمشق، في إطار تقارب الموقف الغربي من الرؤية التركية، أو لنقل في إطار المرونة الغربية إزاء الشروط التركية.

فهل تستطيع الدولتان الاستمرار في نهج المواجهة الإعلامية والسياسية من خلال إدراكهما لخطورة الانجرار لما هو أبعد من ذلك، أم إن كرة الثلج المتدحرجة أكبر من قدرة العاصمتين الإقليميتين على الصمود وضبط النفس، في سيناريو قد يسبب حرباً إقليمية إن لم نقل عالمية؟ سؤال لا يمكن الإجابة عليه بسهولة من خلال الاستقراء والتحليل، ولا يبدو قادراً على إجابته سوى التطورات والوقائع الميدانية في المدى الزمني المنظور.

شارك الموضوع :

اترك رداً