سعيد الحاج

طبيب وكاتب فلسطيني

باحث سياسي مختص في الشأن التركي

المفاوضات الإيرانية الغربية والتوجس التركي

0

قبل ساعات فقط من انتهاء مهلة الغرب لإيران وحلول موعد الاجتماع المرتقب للحسم في ملفها النووي، لا يخفى على المراقب البرود الذي بات يسود العلاقات التركية الإيرانية رغم غياب التوتر الإعلامي بينهما، وما بين مشهد 2010 حين جنبت تركيا جارتها مغبة حرب دولية مزمعة من خلال الاتفاق الثلاثي حول اليورانيوم وما بين مشهد الصمت والتوجس الحالي مفارقات لا يمكن تجاهلها.

لا يعني ذلك بالضرورة أن تركيا لا ترغب بحل إيران مشكلتها مع الغرب بشأن ملفها النووي سلمياً، فليس هذا هو محط التوجس التركي، بل التفاصيل التي يقبع في ثناياها الشيطان كما يقول الفرنسيون. ذلك أن أي صفقة محتملة بين الجارة الطموحة وبين دول (5 زائد 1) لن تكون مقتصرة فقط على الملف النووي، بل ستكون أقرب إلى صفقة شاملة بين الطرفين تحدد قواعد اللعبة ومساحات الاشتباك ومسموحات النفوذ في المنطقة في الفترة القادمة التي يتم رسمها حالياً بقلم التحالف الدولي المتشكل حديثاً، وهذا ما تخشاه تركيا.

الفتور في العلاقة بين الجارتين، التي تصنف إحداهما على أنها حليفة للغرب والأخرى على أنها عدوته، والقائم على الخلاف حول القضية السورية قد يعني في لحظة ما المفاضلة بينهما من وجهة نظر الغرب. إذ لا يخفي الأخير أن صداقاته وعداواته ليست أبدية وإنما قائمة على معيار حفظ مصالحه المعلنة في المنطقة، وبالتالي فإذا ما تغيرت رؤيته لمن يستطيع ويريد حفظها له في الإقليم، فربما يتحول الخصم صديقاً ويؤول الصديق خصماً.

هذا على الأقل ما حصل للعلاقات التركية الأمريكية التي شهدت تراجعاً غير مسبوق رغم التصريحات الرسمية الودية والابتسامات المتبادلة أمام الكاميرات، لعدة أسباب تناولناها في مقالات سابقة ولا مجال لتكرارها هنا، وهذا أيضاً ما يحصل – في الاتجاه العكسي – فيما يتعلق بالعلاقات الإيرانية الأمريكية، حتى تحولت خلال شهور قصيرة من التهديد بالعمل العسكري إلى القبول الضمني بالتعاون العسكري ضد طرف ثالث، وهذه مفارقة تحتاج لمزيد من التأمل، ولا شك أنها تحظى باهتمام الساسة الأتراك.

إذاً، أي اتفاق قادم بين إيران والمجموعة الغربية (ممثلة عن المجتمع الدولي) سيكون في بنوده غير المعلنة وغير المكتوبة أصلاً ترتيب أو تشريع أو “ترسيم” خطوط وحدود النفوذ الإيراني في المنطقة، من سوريا إلى العراق إلى لبنان إلى اليمن إلى الخليج العربي. بهذه الصورة، يبدو أننا حين قلنا بين يدي اتفاق طهران مع دول (5 زائد 1) قبل عام من الآن إن إيران ستعود لدور شرطي المنطقة وستحل محل تركيا كحليف للغرب هنا ولكن بشروط مختلفة لم نكن مبالغين (وربما نكون)، اللهم إلا أننا لم نكن نتوقع حصول ذلك بتلك السرعة.

كثير من المؤشرات تزيد من القلق التركي وتعمق من شكوك أنقرة بحقيقة نوايا التحالف الدولي في المنطقة، سيما حين  تكون رؤية الولايات المتحدة لمهمة هذا التحالف متطابقة مع عدوتها المفترضة إيران (“العراق أولاً، تنظيم الدولة أولاً”) وأبعد بكثير عن رؤية حليفتها التقليدية تركيا (“سوريا أولاً، الأسد ضمناً”).

اتفاق محتمل وفق الشروط سالفة الذكر سيعني تحالفاً ضمنياً بين محورين في العالم العربي والمنطقة ضد الثالث، محور الاعتدال المعاد تشكيله بعد الانقلاب في مصر ومحور إيران وحلفائها في مواجهة محور تركيا وقوى الثورة في الربيع العربي، تحديداً الحركات الإسلامية في تلك الدول (البعض يفضل تسميته بالمحور السني).

لا تريد تركيا بالتأكيد حرباً إضافية في المنطقة بين هذين المحورين، وهي التي بنت سياستها الخارجية على نظرية تصفير المشاكل وبنت نهضتها الاقتصادية على الاستقرار في الداخل والخارج، لكنها بداهة لا تريد أن يكون أي اتفاق بينهما على حسابها.

والحال كذلك، فما الذي تملكه تركيا الآن لشفاء هذه الهواجس ومنع حصول ما تتوجس منه؟ أزعم أنها لا تملك حالياً شيئاً زائداً عما فعلته وتفعله منذ شهور على محور الضغط والضغط المقابل مع واشنطن فيما خص شروطها للانخراط الفعلي والميداني ضمن التحالف الدولي على الأرض السورية، أما أكثر من ذلك، وفي ظل تجاهل الولايات المتحدة لهذه الشروط، فلا أعتقد أنها تملك شيئاً إلا الانتظار والتحرك وفق النتائج.

أحد التحليلات المتداولة لتصريحات وزير الخارجية الأمريكي الأخيرة حول “إمكانية” بحث المنطقة الآمنة على الحدود التركية السورية اعتبره نوعاً من الضغط على طهران لإنجاز الاتفاق الذي تريده واشنطن، وبذلك يفقد التصريح فعلياً أهميته، تحديداً بعد وضوح الاندفاع الأمريكي لبلورة اتفاق ما، بعد تسريب رسالة أوباما إلى خامنئي، وبعد فوز الجمهوريين في الانتخابات الأخيرة، وفي ظل رغبته بأن يتوج فترتي رئاسته بانتصار دبلوماسي.

لكن، من الناحية الأخرى، يرى بعض المراقبين أن التمهل الأمريكي فيما خص الشروط التركية ورؤيتها لحل الأزمة المتضمنة لإسقاط نظام الأسد، كسبب للتطرف إضافة إلى المأساة السورية بمشهدها الأشمل، يعود لعدم رغبتها في تأثير ذلك على المفاوضات مع إيران حرصاً على عدم فشلها، وبالتالي يمكن – وفقاً لهؤلاء – توقع موقف أمريكي مغاير بعد المحادثات المرتقبة.

في الختام، لا يمكن بحال التكهن بنتيجة المفاوضات بين الطرفين في ظل التصريحات المنتشرة والمتضاربة، ويبقى إبرام اتفاق ما هو الاحتمال الأضعف – رغم إمكانية حدوثه – بينما يمكن أن يكون إعطاء إيران فترة إضافية مع إجراءات تقاربية متدرجة من الطرفين، أو الخروج باتفاق إطار هو الخيار الأقرب للحدوث. وربما يكون هذا الخيار الأخير هو الأفضل للطرفين خاصة الإيراني، الذي ربما سيحتاج لجهد كبير لإقناع مواطنيه وقبلهم  حلفائه بأسباب ومسوغات صفقة شاملة كتلك المتوقعة، وبما يتوقع أن تتضمنه من بنود ستحمل إيران – فعلاً إن لم يكن قولاً – من العداء إلى التحالف مع الغرب وفي مقدمته الشيطان الأكبر – سابقاً – الولايات المتحدة الأمريكية.

وفي كل الأحوال، سيكون على تركيا وعلى دول المنطقة عموماً ومعهم كل القوى الفاعلة في الإقليم، دراسة مخرجات الاجتماع المرتقب وتقييم آثاره المتوقعة على الجميع، بما يتيح رسم استراتيجية التعامل مع الحقائق المفروضة على الجميع مستقبلاً.

 

شارك الموضوع :

اترك رداً